نشر الكاتب الصحفي كمال الشارني نصًّا مفعمًا بالأحاسيس والموسيقى التصويرية في سردٍ قصصيٍّ رائعٍ، يتحدث فيه عن وفاء الكلب “موريس”.. ضمن رواية “أحباب الله”.
الكاتب الصحفي كمال الشارني نشر رواية “أحباب الله”، والتي يصوّر فيها فصولًا من تجربته خلال سنوات سجنه زمن نظاميْ حكم الرئيسيْن بورقيبة والمخلوع بن علي، ويروي ما لاقاه من اضطهاد وقمع وتعذيب خلف أسوار سجنيْ الكاف والقصرين.
وكان الشارني استقال في 2014 من عمله في صحيفة “الشروق” التونسية بسبب “عدم احترام معايير الحرفية والمهنية في نشر الأخبار والمقالات وأنها أصبحت مرتعًا للصوص والقوّادين والكذّابين”.
وهو يعمل حاليًا في إذاعة “تونس الثقافية”.
واختار الشارني لهذا النص عنوان “مهابيل، إذا وجدنا موريس سنجد البقرة”. عن الكلبة ونسة، وعن الجبل وأشياء أخرى.
حالة طوارئ عائلية في سركونة
كان عمري اثني عشر عاما، في زمن الأمطار التي لا تتوقف لما أطلقت جدتي حالة طوارئ عائلية في سركونة حين لم تعد بقرتها المفضلة الشهباء العشرى على وشك الولادة إلى الحوش مع قطيع أبقارها الذي يرعى هائنا بسلطتها الواسعة لأيام في الجبل قبل أن يعود إلى الدوار عندما يحلو له ذلك، وحده ابن خالي المغرم بالجبل، شريك طفولتي الخرافية لاحظ غياب كلب العائلة الوفي موريس الذي ولد قبلي بنصف عام وأصبح صديق ألعابنا حتى خيل إلينا أننا يمكنا أن نثق به حقا، قال لي: “مهابيل، إذا وجدنا موريس سنجد البقرة”، وأنا وهو كنا نتحدث عن موريس، ليس بصفته كلبا، بل واحدا منا، يمكن التعويل عليه في أكثر أفكارنا جنونا أو حماقة، وقد حدث له مثلا أن شاركنا في سرقة البطيخ من سانية أحد أخوالي بالعراك مع كلابه الشرسة الثلاث، كما رافق أحدنا إلى عرس في بيوت أولاد عيار وقاتل كلابهم كلابهم التي لا ترحم وظل ينتظره حتى انتهى العرس للعودة.
طوارئ جدّتي والبقرة الشهباء
اتخذت جدتي إجراءات طوارئ للبحث عن البقرة بلغت كل العائلات القريبة والمتصاهرة والمتحالفة مع الحفايظية وأولاد بوليفة بشكل خاص والشوارنية بشكل عامن ثم الجيران من أولاد قانة شمالا مرورا بأولاد اسماعين سادة قبيلة فضلاوة القوية شرقا والدزيرات والغرابى وصولا إلى الناظور والجزائريين المعروفين باسم السطايفية أي من مهاجري سطيف من الجزائر، من يعثر على بقرة شهباء ضالة فهي بقرة فرهودة، كما يسميها أبي تحببا، رحمهما الله.
شملتني الطوارئ التي أعلنتها جدتي أنا وابن خالي، شريك طفولتي في الألعاب الشريرة التي كنا نخطط لها يومها، وكان نصيبنا أن نعيد البحث في جبال تفيفرا الوعرة نحو الشمال جنوب جبل القفي العظيم، تحت رذاذ المطر، لا ترافقنا سوى كلبة أليفة صغيرة اسمها ونسة، وأنا رأيت الدموع في عيني جدتي وهي تودعنا، بنفس الثقة الكاريزمية التي ودعت بها كبار رجال الأسرة وهم يذهبون بحثًا عن بقرتها المفضلة.
شملتني الطوارئ التي أعلنتها جدتي أنا وابن خالي، شريك طفولتي في الألعاب الشريرة التي كنا نخطط لها يومها، وكان نصيبنا أن نعيد البحث في جبال تفيفرا الوعرة نحو الشمال جنوب جبل القفي العظيم، تحت رذاذ المطر، لا ترافقنا سوى كلبة أليفة صغيرة اسمها ونسة، وأنا رأيت الدموع في عيني جدتي وهي تودعنا، بنفس الثقة الكاريزمية التي ودعت بها كبار رجال الأسرة وهم يذهبون بحثًا عن بقرتها المفضلة.
الكلبة “ونسة” والكلب “موريس”
حاولنا طرد الكلبة ونسة لصغرها حتى أنها تشبه الكانيش وتوقعنا أن نضطر لحملها عند عجزها عن الجري وسط الغابة والوهاد الوعرة، ثم سولت لنا المراهقة لما ابتعدنا عن حوش جدي وبدأت العزلة تخيفنا أن نسأل ونسة عن الكلب موريس، قال لها ابن خالي الذي يفهمها أكثر مما يفهم البشر: “ونسة، فتشي عن موريس، موريس وين؟”، وكأنها فهمت، لأن الباقي كان علينا أن نتبعها وسط الغابة والأودية وهي تقرأ روائح من مرّ من هناك، حتى دخلت بنا أحد أودية تفيفرا وسط أكمة كثيفة من نبات الضرو: هناك، رأينا البقرة سليمة تجتر وعجلها نائم عندها بسلام، إنما كان هناك أيضا الكلب موريس مضرج بالدماء من وجهه ورقبته ومؤخرته، كان واضحا أنه خاض معارك ضارية ليومين ضد الذئاب من أجل البقرة التي ولدت هناك حتى أنه تحامل على نفسه لكي يرحب بنا كما لو كنا جئناه من السماء، لقد كان مجروحا ومتعبا وجائعا حتى أننا تداولنا على حمله فيما كانت ونسة تصر على لعقه من كل مكان، أقول لكم الحق: لقد بكيت وقتها.
نجاة البقرة وعجلها وموت موريس
النتيجة: نجت البقرة وعجلها، ومات موريس بعد تلك الحادثة بأربعة أعوام، تحامل على نفسه للذهاب إلى الموت بعيدا عن الدوار في الجبل، وعثرت عليه أنا وابن خالي وهو في حال يصعب فيها حمله حتى أننا وضعناه في برويطة بسبب تهرؤ لحمه، لكنه تمكن من الهرب ومات بعيدا عنا بعد أن أكله الضبع عن سن يقارب ثمانية عشر عاما لكي تعود عظامه إلى الطبيعة التي عاش فيها، وبعد ما مات، تذكرت كيف كان يتوقع حضوري من ملاق إلى سركونة فينتظرني بعيدا عن دوار جدي في غابة الجبل وسط الظلام فلا أشعر به إلا وهو يرتمي علي مرحبا في الظلام، كان رفيقا حقيقيا، كان يحضر لي في أوقات خوفي من الغولة التي لم ينكر أحد من الأسرة وجودها.
ثلاث سنوات سجنًا
بعد تلك الحادثة، أنا انتقلت للدراسة في الثانوي في الكاف، ولم يجد ابن خالي أي مبرر مغر في عمره لتجاوز السنة السادسة ونجح في الحياة الجبلية الإنسانية الحقيقية، فيما بعد أنا دخلت السجن لثلاث سنوات من أجل مظاهرة مزيفة، وهو أول من زارني في السجن، ورأيت في عينيه أنّ موريس والبقرة وريحًا هوجاء من الغابة جاءت معه، وأنه يتقدم في فهم هذا العالم البائس، فيما أنا أغرق وحدي، سافرت بعيدًا في هذا العالم، فيما هو ما يزال يطوّر لغته مع الغابة والأشجار والكلاب والنحل ويجد علاجًا لأمراضه في الأعشاب والنباتات، إنها سركونة “يا دين السماء”، ليست بحاجة إليّ لكي تدافع عن نفسها.
Views: 1