الغنوشي .. جرّاح الولادة القيصرية .. لحكومة الجملي
الأستاذة حياة بن يادم
لم تر تونس منذ الثورة مفاوضات عسيرة مثلما شهدتها حكومة الجملي المرتقبة، إذ منذ تكليف الأخير بتشكيلها وهي تتعرض إلى مطبّات وصعوبات، مما استوجب الاستنجاد بـ”كرونيكورات” الإعلام قصد التوسط بين الأحزاب لتكوين توليفة حكومية سياسية قوية تعكس نتائج صناديق الاقتراع.
حكومة كفاءات مستقلة
لكن هذا المسعى فشل مما جعل الجملي يتوجّه للحل البديل و هو تكوين “حكومة كفاءات مستقلة”، لكن بالإعلان عن التشكيلة يتضح وأنّ بصمات الاتحاد والنهضة وقلب تونس غير خافية على الجميع. ومعطى الاستقلالية فقط للاستهلاك الإعلامي، أما الكفاءة وإن وجدت في البعض فإنها غائبة تمامًا في البعض الآخر، كما أنها حكومة ثقيلة متكونة من 28 وزيرا و14 كاتب دولة في ظروف دولة تعيش أزمة اقتصادية، زيادة على ما مدى انسجام كتاب الدولة مع الوزراء في تسيير الوزارة.
بالرجوع للخيار الذي أدّى إلى تكليف الجملي بتشكيل الحكومة، يتضح وأنّ مخرجات شورى النهضة رقم 33 والتي استبدلت قرارات شورى النهضة رقم 32 التي تعتبر القصبة عصب الحكم، لتصبح باردو مركز الحكم، و عليه تم التفويت في القصبة لفائدة شخصية “مستقلة”.
يتمّ اقتراح شخصيات “مستقلة ” من طرف الهيكل التنفيذي على مجلس الشورى، ليتم اختيار الجملي حيث كان مسنودا بشريكه في مكتب الدراسات الذي اقترحه و صنع له “لوبي” داخل الشورى مكّنه من حصد أصوات العبور على الرغم من أنّ الشخصية المقترحة من رئيس حركة النهضة لم تمرّ لكن خياره هو الذي مرّ.
توتر بين رئيس الحكومة المكلف ورئيس حركة النهضة؟؟
تواترت معلومات خلال المفاوضات حول تشكيل الحكومة تفيد بوجود توتر بين رئيس الحكومة المكلف ورئيس حركة النهضة، لكن مهما بلغت درجة التوتر فإن شعرة معاوية لم تنقطع، كما أنّ هناك سقفًا لا يجب تجاوزه و هو عدم وأد حكومة الجملي مهما كان الثمن، لأن وأدها له استتباعات داخلية واستتباعات سياسية عديدة خاصة وأنّ الجملي كان مُصرّا على الذهاب بتشكيلته إلى البرلمان حتى ضد إرادة النهضة وحتى ولو تمّ إسقاطها كما صرّح بذلك.
و في هذه الوضعية تكون النهضة الخاسر الأكبر في الحالتين في صورة إسقاطها يجد الغنوشي صاحب المقولة الشهيرة “إلّي فات ماعادش يرجع” أمام حكومة “الرئيس” التي تخبئ وراءها عزل النهضة من حكم القصبة، وفي صورة مرورها بتزكية الخصوم شماتة في النهضة وتغذية للصراع الحاصل داخلها.
يتبين أنّ الغنوشي استطاع في اللحظات الأخيرة تحسين تشكيلة حكومة الجملي والبيان الصادر عن النهضة والذي يتحدث عن اعتراضها على التشكيلة المقترحة والتي ترغب في تطويرها قصد استجابتها لتطلعات التونسيين، ليست سوى امتصاص لغضب النهضاويين، وحتى تصريح قياديين مثل ناجي الجمل ومعز بلحاج رحومة على صفحات التواصل الاجتماعي لا تعدو أن تكون سوى تدوينات مدوهنة بالزبدة تذوب عند أول تصويت للحكومة.
إستراتيجية الغنوشي في إدارة المرحلة
المتابع لاستراتيجية الغنوشي في إدارة المرحلة يتبين أنه يعتبر الاستقرار السياسي مازال هشّا ويتطلب توليفة حكومية لتثبيت الانتقال السياسي حتى ولو كانت هذه الحكومة لا يرتجى منها الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي.
لكن هذا الخيار له تكلفته، لأنّ الشعب التونسي لم يعد ينتظر حسابات السّاسة وربما تكون هذه الحكومة إن لم تقمْ بإجراءات استعجالية يكون أثرها واضحًا على الفئات المهمشة في المدى القريب، سببًا في اندلاع توترات اجتماعية وفوضى يصعب التحكم فيها.
يملك الجملي برنامجًا حكوميًا اعتمده على وثيقة النهضة إذ نجد عدة عناوين منها مضمّنة في وثائق لحكومات سابقة (copier-coller)، لكن ليس المشكل في أن تكون نفسها، المشكلة أنها لا ترتقي إلى متطلبات المرحلة وهي إجراءات كلاسيكية ولم تأتِ بالجديد والإجراءات المضمّنة بها، هي إجراءات على مدى المتوسط والبعيد.
وتفتقر إلى إجراءات غير كلاسيكية وفورية بعقلية ثورية ومتصالحة مع الدولة، لتكسّر البُطْء الحاصل في إنجاز الخطوات العملية لتلبية تطلعات المواطن الذي بدأ صبره بالنفاذ والتي أنهكته الأزمة الاقتصادية.
و رغم أنّ هذه الوثيقة كانت محلّ تقييم من عدة أطراف ومهما اختلفنا حولها فإنها تتضمن إيجابيات كما السلبيات، لكنها تبقى وثيقة بدون روح، إذا لم تتبنّاها إرادة سياسية واضحة ومنسجمة، والأهم من السلبيات الكثيرة الموجودة بها، هي بأيّ إرادة سياسية سيتم إنجاز إيجابياتها على الرغم من قلّتها في ظل تلغيم الإدارة من طرف حكومة تصريف الأعمال التي أبدعت في عملية التعيينات على أساس المحاباة في الوقت البدل الضائع، والتي أفصحت عن هواها حيث رجحت مصادر أن يكون يوسف الشاهد على رأس ديوان رئاسة الجمهورية.
“حكومة الرئيس” في الانتظار
هذا التعيين إن حصل فربما يكون وقتيًا لحين شغور رئاسة الحكومة لاستبدالها بحكومة “الرئيس”.
لك الله يا حكومة الجملي، فعند ولادتك ستجدين نفسك في أحضان الطاقم التنفيذي الذي ركزه الشاهد قبل خروجه قصد لعب دور خفيّ يساعده على الرجوع مرة أخرى، و أمامك شعب أنهكته الأزمة الإقتصادية، وورائك حكومة “الرئيس” المترصّدة.
رغم المؤشرات الصعبة التي تنتظر حكومة الجملي فإنّ ولادتها باتت من التحصيل الحاصل، فالنهضة وقلب تونس على قلب رجل واحد، أما ائتلاف الكرامة فلا تعدو تصريحات ناطقها الرسمي بعدم التصويت لها لأنها لا تتضمن محامين في التشكيلة سوى فرقعة إعلامية.
ولا نستغرب وجود معارضين لها على بلاتوهات الإعلام هم أول من سيصوتون لها لعلمهم إسقاطها ربما يدفع بإعادة الانتخابات و هي إعلان شهادة وفاتهم من المشهد البرلماني.
كان ولازال الغنوشي رجل التوافقات والرجل القوي في الحزب وفي الدولة، هو المحدّد منذ البداية في مسار هذه الحكومة ليكون جرّاح الولادة القيصرية ..لحكومة الجملي.