نشرت “عربي 21” تقريرًا مطوّلًا كشفت فيه عن آراء الخبراء للإجابة عن السؤال التالي: “هل يملك الإسلاميون نظرية متكاملة للدولة؟”.
وأكد الجامعي ورئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد، احميدة النيفر، على حاجة العرب، والمدرسة الإسلامية على وجه الخصوص، إلى مصالحة مفهومية مع “الدولة”.
واعتبر الباحث المختص في الفلسفة والقيادي في “حركة النهضة” العجمي الوريمي، أنّ التعريف القانوني للدولة القائم على مرتكزات ثلاث هي الإقليم الجغرافي والشعب والسلطة السياسية، يبقى تعريفا قاصرا باعتباره يغيّب مكونا أساسيا هو مكوّن الحضارة، ولم ينكر عدم جهوزيّة نموذج إسلامي للدولة.
وهذا هو التقرير كاملًا:
لفترة تربو عن القرنين، ظلّت الأجيال المتلاحقة للنخب الفكرية الإسلامية وأعلامها تتصدى لما اعتبرته مأزق الانقطاع الحضاري وخروج العرب من التاريخ، بدءاً بحركة الإصلاح والنهضة العربية في العصر الحديث، وعلى رأسهم جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمان الكواكبي ومحمد عبده وخير الدين التونسي، مرورا بمحمد رشيد رضا، ووصولا إلى ما يعتبرها البعض بالنسخة المستأنفة لحركة الإصلاح داخل الفكر الإسلامي والمتمثلة بالخصوص في يوسف القرضاوي ومحمد سليم العوا ومحمد عمارة وحسن الترابي وراشد الغنوشي.
بسقوط دولة الخلافة سنة 1924، وتعمّق مأزق الهوة الحضارية التي تفصل العرب عن الغرب، وبروز سؤال شكيب أرسلان المركزي: “لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟”، حظي موضوع الدولة، بوصفه مركز الثقل في المقاربة النظرية للإصلاح السياسي والأفق الاستراتيجي للآداء النضالي، والقاعدة المركزية التي تُبنى عليها الآمال في التقدم والتحديث، باهتمام بالغ من لدن الأجيال المتعاقبة للحركة الإسلاميّة، التي غدت ممزقة بين نموذجين إثنين: دولة “النبوّة” الأولى التي أرساها الرسول في المدينة ودولة المستقبل التي طال انتظارها.
رغم الاهتمام المبكّر بمبحث الدولة، لم تبرح نصوص الإسلاميين، وفق كثيرين، مربّع الكتابات “التبشيريّة” بـدولة إسلاميّة غائمة المفهوم، تغلب عليها التصوّرات الصفاتيّة والشكلانيّة وربطت معظم قراءاتها إسلاميّة الدّولة بالحاكميّة والشورى والإمامة، بحسب قراءة عبد الغني عماد في كتابه “الاسلاميون بين الثورة والدولة: إشكالية إنتاج النموذج وبناء الخطاب”، سقفها الخلافة، بصفتها “بيضة الإسلام” والإطار التنظيمي الجامع لعموم المسلمين، وقاعدتها دولة الاستقلال أو التجزئة، أو الصورة المشوّهة للدولة الغربيّة الحديثة، ثمرة حسم الكنيسة البروتستانتية لصراعها مع الكنيسة الكاثوليكية المستأثرة بأراضي الامبراطورية الرومانية، زمن الملك فيرديناند الثالث، أواسط القرن السابع عشر.
عودة الإسلاميين لتصدّر واجهة الحكم في تونس، دافع مهم لمناقشة مدى تطوّر مفهومهم للدولة ضمن السياقات التاريخية الجديدة التي تشهدها المنطقة العربيّة ما بعد 14 من كانون ثاني (يناير) 2011، والحفر في مدى مساهمة انزياحهم عن موقع المعارضة نحو كرسي الحكم، في تغليب القراءة المنتصرة لوطنيّة الدولة، التي قعّد لها حسن البنا، على سواها من القراءات المنادية بمركزيّة الخلافة عمادا للدولة الموعودة.
كما يطرح التقرير معوقات عجز الإسلاميين عن كتابة نظريّة في الدولة، تكون بديلا عمليا عن خطابات التعبئة وأغراض الفخر، التي تغمر غالب كتاباتهم الفكرية والسياسية، وفق رأي البعض، عند الحديث عن مبحث الدولة.
الفهم القاصر للدولة المستعصية
يرجع المهدي عزوز، الباحث في السياسات العربيّة بالجامعة التونسيّة، في تصريح لـ “عربي21″، إبطاء الإسلاميين في فهم حقيقة الدولة التي استعصى عليهم حكمها، إلى عدم استيعاب أجيالهم المتلاحقة بعد، حقيقة أنّ هذه الدولة قد قُدَّتْ في المرّة الأولى من غيابهم (دولة الاستعمار المباشر)، كما بنيت ولادتها الثانية (دولة الاستقلال) على جماجمهم. وأن انتقالهم من الهامش إلى المركز كان لابد أن يمر عبر مرحلة وسيطة أو انتقالية اسمها “القدرة على ترويض الدولة المستعصية”. وهو ما يعتبره شعار المرحلة الجديدة، التي أعقبت بدايات الحكم المتعثرة في كلّ من تونس ومصر وليبيا ما بعد الرابع عشر من جانفي 2011. ويضيف “إن الحكام الجدد لم يفهموا أن الدولة الوطنية قد رُكّبت بطريقة لا تقبل وجودهم على كرسي الزعامة، وحين صعدوا ذلك الكرسي، كانت محنة الحكم أقسى عليهم من محنة المعارضة”.
يعود المهدي عزوز إلى التاريخ، مستعيدا البدايات الأولى للحركة الإصلاحية بكل همومها العقائدية والسياسية والاستراتيجية زمن اختلال التوازن، فحين كانت هذه الأخيرة تأخذ المبادرة، كان الاحتلال المباشر يسرع الخطى نحو قطع الطريق على إنفاذ مشروعه، ويذهب بعيدا في فك الارتباط بين العرب والأتراك، ورسم حدود الدولة التابعة، وتفتيت المنطقة، وبذلك نجح في إزهاق المشروع الإصلاحي، وألجأ دولة الرجل المريض إلى الحتف الذليل، مهيئا البيئات العربية لاستقبال دولة التجزئة باعتبارها بديلا عن الأمة.
في نفس الإطار، يذكّر عزوز بأنّ المقاومة العربيّة الإسلاميّة من عبد الكريم الخطابي في المغرب، إلى عبد القادر الجزائري في الجزائر، إلى عمر المختار في ليبيا، إلى ثورة العشرينات في المشرق العربي، إلى القسام في “قلب الأمة” فلسطين، كانت قادرة على تصعيد كلفة الاحتلال المباشر، مما اضطر المحتلين إلى إعادة الانتشار، عبر الاعتراف باستقلال هش، لم تكن قادرة على تأمين كسرة الخبز، فما بالك بإنفاذ مشروع وطني شامل في التنمية والتحرر والحكم الرشيد، وهو ما سهل تحول الاحتلال المباشر إلى احتلال جديد، وصعدت الدولة الوطنية كاستمرار للاختراقات الاستراتيجية التي عرفتها المنطقة، ممّا أدّى إلى إزهاق مشروع المقاومة، وتصعيد النخبة الجديدة كوكيل حصري للمحتلين عن بعد، وما حسبناه فجرا لم يكن إلا بداية العتمة، يضيف عزوز.
تيار الجامعة الإسلامية وغياب التأصيل الفكري
يشير توفيق المديني، كاتب وباحث سياسي، في تصريح لـ “عربي21″، إلى غياب تأصيل فكري بشأن مقولة الدولة عند تيار الجامعة الاسلاميّة، تيار تجديد ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ويُعَدُّ تيّارا حاملاً لعقلانية إسلامية، وفاتحا باب الاجتهاد في تفسير أحكامه وأبرز أعلامه جمال الدين الأفغاني، رغم إشارة الأفغاني بوضوح في هذا الصدد، إلى أنَّ هدفه الرئيس يكمن في “توحيد الشعوب الإسلامية تحت لواء حكومة إسلامية واحدة، يقوم على رأسها خليفة لا منازع لسلطته، كما كان الأمر في الأيام الأولى في الإسلام”.
ويذهب جمال الدين الأفغاني في طرحه المثالي السلفي إلى نفي صفة التناقض بين الرابطة والجامعة الإسلامية من جهة وبين الرابطة والجامعة القومية من جهة أخرى، بالقول “أن يكون الحكم له والسلطان لشريعته ينبغي أثر تميز الحاكم قومياً عن المحكومين، فلا ينفر العربي من سلطة التركي، ولا الفارسي من سيادة العربي، ولا الهندي من رئاسة الأفغاني.
الإسلاميون المعاصرون ومبحث الدّولة
يشير على الصالح المولى، جامعي متخصص في قضايا الفكر العربي الحديث والمعاصر بجامعة صفاقس، في تصريح لـ “عربي21″، إلى شحّ الأدبيّات الإسلامية المتناولة لمبحث الدولة، إلى الحد الذي جعل هذا المبحث بالكاد يقتصر على كتاب “الحكومة الإسلامية” للخميني، و”الحريّات العامّة في الدولة الإسلاميّة” لراشد الغنوشي.
وأضاف: “إن مؤلف الخميني قام على اجتهاد متعطّش لملء الفراغ وتجاوز معضلة الغيبة والإرجاء، وتقديم كلّ الإمكانات التأويليّة لِصالح الدولة الدينيّة، في مشهديّة تحتفي احتفاء رمزيّا بظهور الإمام المغيّب وحلول المهدويّة في التاريخ بقيام دولة الإمام الفقيه..
في ذات السياق، يرى المولى أنّ انكفاء النزعة التحديثيّة التي أسس لها الغنوشي في كتابه “الحريّات العامّة في الدولة الإسلاميّة” والقائمة على اجتهاد يستوعب قيمَ الدولة، لم تتحوّل إلى اتّجاه بحثيّ جماعيّ، لذلك لم يتولّدْ منها فكر أفقيّ يغذّي هذه الإسلامويّة، على حدّ وصفه.
يوافق المهدي عزوز ما ذهب إليه المولى من إقرار بانكفاء النزعة التحديثيّة، مشيرا إلى أن الإسلاميين، طوال تاريخهم لم يتمكنوا من بناء نظرية في الدّولة عدا شذرات مواقف هنا وهناك في إطار حديثهم عن مظلوميتهم التاريخية، فتراهم يتحدثون عن دولة التغريب أو الدولة التابعة أو الدولة الطاغوتية … شأنهم في ذلك شأن القوميين العرب الذين أنكروا الواقع (واقع التجزئة) في انتظار دولة الوحدة.
وقال: “لقد كتب الإسلاميون في نظرية الحكم أكثر مما كتبوا في نظرية الدولة الإسلامية. وفي العقود الأخيرة اندفع الإسلاميون نحو إثبات جدارة الإسلام في الحكم والتدبير عبر محاولات محمومة لاستيعاب المنجز النظري المعاصر، فكثرت تصنيفاتهم عن الحقوق والحريات وحقوق المرأة وحق الأقليات… وهي كتابات تطغى عليها النزعات التبريرية والدفاعية. ولم يكن ذلك إلا ردا على السجالات المفتوحة التي أدارها ضدهم خصومهم العقائديون والسياسيون. ولكن ذلك لا يمكن أن يغطي الجهود الاستثنائية لطائفة من المفكرين الإسلاميين في تأصيل القضايا الحارقة، التي باتت تطرح نفسها بإلحاح على المنظرين الإسلاميين، وخاصة أكبر قضية خلافية داخل الإسلاميين، قضية الديمقراطية. ومن أهم المؤصلين للديمقراطية مضمونا واصطلاحا راشد الغنوشي وحسن الترابي”.
يطلق المهدي عزوز على الخط الفكري والسياسي لكل من الترابي والغنوشي صفة “الحركة الإسلامية التحديثية”، نسبة لكتابهما المشترك “الحركة الإسلامية والتحديث” الذي ظهر في الثمانينيات. ورغم إقراره بالمجهود الكبير الذي قام به الغنوشي من جهة تبيئته لمفاهيم الديمقراطيّة والحريات الأساسيّة، وإجابته المهمة عن سؤال التأصيل السياسي، تلك الثغرة الكبيرة في تنظيرات الإسلاميين، إلا أن المهدي عزوز، الباحث في السياسات العربيّة بالجامعة التونسية، يؤكّد على عدم امتلاك صاحب رائعة “الحريات العامّة في الدولة الاسلاميّة”، شأن غيره من المفكرين الإسلاميين، لنظريّة في الدّولة، مما يجعل أغلب تصورات الإسلاميين متأرجحة بين النزعات السجالية والدفاعية والتبشيرية.
ومما سجله المهدي عزوز على ضعف المقاربة الإسلامية في الدولة، أن الإسلاميين الذين ساروا على تخوم الدولة الوطنية، وفي تناقض معها. فأدخلوا سجونها، وحصدت أرواحهم مشانقها، وتقلبوا في معارضتها على كل جنب، إلا أنه مع ذلك “الفيض” من التنافي، لم ينتجوا مقالة نقدية حول تلك الدولة. فباستثناء كتاب يتيم للأستاذ منير شفيق “التجزئة والدولة القطرية: قراءة استطلاعيّة”، لا تكاد تجد كتابا متكاملا واحدا للإسلاميين في نقد الدولة الوطنية، وتلك هي المفارقة. ولكنها مفارقة مكلفة على المستوى المعرفي، باعتبار وأن غياب القراءة النقدية للدولة الوطنية، قد غَرّبَ المقاربة الإسلامية عن الواقع ودفع بها إلى البحث في الدولة الأولى (مرحلة المدينة)، والدولة الموعودة (الدولة الإسلامية التي حملوا على عواتقهم مهمة بنائها)، في حين غاب عنهم تحسس ما بين البدايات الأولى والنهايات المأمولة، أي غابت عنهم دولة الواقع. وهي السمة الغالبة على تنظيرات الإسلاميين من محمد المبارك حتى راشد الغنوشي مرورا بمحمد البهي وعبد القادر عودة والترابي وآخرين. وهو ما أخر بناء نظرية إسلامية في الدولة.
حسن البنا وبناء الدولة الوطنية الإسلاميّة
يؤكد المهدي عزوز على ضرورة فهم الروافد الأساسية في بناء الحركة الإسلامية المعاصرة، ليسهل علينا فهم مواقفها المتباينة من مبحث الدولة. هنا يطرح السؤال كيف دافع الإسلاميون في 1928 وما بعدها عن مشروعهم السياسي؟. وحين نقول 1928 فإننا نقصد بعد أربع سنوات من سقوط الخلافة. وقد ربط البنا هذا بذاك وكان على وعي كبير بالغبن الاستراتيجي للأمة. فتأسيس الجماعة عنده لم يكن إلا ردا على سقوط الخلافة.
ويؤكد الباحث التونسي في السياسات العربية أن “الطليعة” الجديدة التي أطلت برأسها على زمن مفارق، قد بدأت باستلهام تجربتين أو رافدين على الأصح: الرافد الاصلاحي السلفي ممثلا في تيار محمد بن عبد الوهاب، والرافد الإصلاحي السياسي المتحدّر من مدرسة الإصلاح والنهضة.
ويستنتج قائلا: ربما أصيبت الحركة الإسلامية منذ بواكيرها الأولى بعسر في الهضم للرافدين معا، مما فوت عليها فرصة بناء تيار حضاري قادر على إحداث التغيير الحقيقي وإعادة بناء الإطار التنظيمي للأمة، قبل أن ترسخ الدولة الوطنية أقدامها، وترفع علمها، وتسطر حدودها، وتستظل بظلال القانون الدولي.
ويضيف: إذا كان الإصلاح باق ما بقيت الأمة. والإصلاح كما يعرّفه علي أومليل هو رد الإسلام الاجتماعي إلى الإسلام المعياري. فقد ظل في مستواه السياسي مرتبطا أشد الارتباط بمفهوم النصيحة، كما في الحديث النبوي. فظلّ منهج “النصيحة” هو المنهج الغالب. وهو ما يعني الإصلاح من الدّاخل أو “المساندة النقديّة” بلغتنا المعاصرة.
سيد قطب والانقلاب على “الدولة الوطنية الإسلاميّة”
إلا أن حسن البنا كان استثناء في المسارات الإصلاحية عبر تاريخها، فهو حين نحت مصطلح “الدولة الإسلامية” لأول مرة، فقد كفر بمبدأ النصيحة (وإن اعتمده في بعض الأحيان) وضرب عميقا في جدوى الاستمرار في التشبث بالأطر التنظيمية التي عفا عنها الزمن. إن البنا وإن أبدى تعاطفا مع مصير الخلافة، إلا أن الخلافة ليست إلا شكلا من عدة أشكال ممكنة، يمكن الاستعاضة عنها. لقد كسر البنا بيضة الإسلام من حيث أراد أن يعيد بناءها. وكان راديكاليا في طرح بديله السياسي وهو “الدولة الإسلامية”.
في ذات السياق، يشير المهدي عزوز إلى أنّ حسن البنا كان فلتة لم يراكم عليها الإسلاميون كما يجب، فهو الذي أكد على بناء الدولة الإسلامية الوطنية، باعتبارها اللبنة الأولى ضمن أفق الدولة الإسلامية الجامعة، مؤسسا بذلك لمفهوم ثوري بديل عن المفاهيم التقليديّة المشتغلة ضمن أفق النصيحة، والتي توقف بها الزمن عند ما قبل 1924.
ولبناء تلك الدولة آثر البنا أن يكون الواقع هو المنطلق: أي الاعتراف بالدولة القطرية (سماها وطنية) كمنطلق ودولة الأمة كأفق استراتيجي لا بد من استجماع شروطه، دون أن يغفل الإقليمي والقومي العربي. فانفتحت لأجل ذلك أربع دوائر رئيسية: الوطني، الإقليمي، القومي، ثم دولة الأمة الجامعة. مضيفا أنّ الانقلاب على أطروحة البنا الثورية تمّت مع سيد قطب، الذي أقام مشروعه على “المفاصلة”، بانتقاله من استعداء الدولة إلى استعداء المجتمع، وبذلك يكون قطب قد انتصر، على مستوى القاعدة الفلسفيّة، للرافد السلفي، وكان على المدرسة الإخوانية انتظار صدور كتاب حسن الهضيبي: “دعاة لا قضاة”، حتى تستعيد المنهج الإصلاحي الثوري في رؤيتها لمفهوم الدولة.
الدولة والالتباس التاريخي عند الإسلاميين
يؤكد احميدة النيفر، جامعي ورئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد، على حاجة العرب، والمدرسة الإسلامية على وجه الخصوص، إلى مصالحة مفهومية مع “الدولة”، مضيفا في حديث مع “عربي21”: أنّ المعضلة الفكرية العربية مع مفهوم الدّولة تنسحب على مجمل التيارات الفكرية العربية التي يغلب عليها مفهوم الريع والعصا والجزرة، من ذلك ارتباط تجربة اليبراليين مع دولة الاستقلال بعقلية الغنائمية واقتران تجربة القوميين الناصرية والبعثية في كل من مصر والعراق وسوريا بالاستبداد وسلطة العشيرة أو الطائفة.
في نفس الإطار، يشير النيفر إلى جدّة مبحث الدّولة داخل السياق العربي الإسلامي، مذكّرا بأنّ مفهوم الدولة الذي جرى به العمل في الدول الإسلاميّة الكبرى كالدولة الأموية أو العباسية، كان مفهوما مركّبا مبنيّا على المزاوجة بين المفهوم الامبراطوري، الممتد وقتها عبر الأراضي الممتدّة والأراضي المفتوحة في الحروب والغزوات، والقيم الأخلاقية التي جاء بها الإسلام، دون الاهتمام بتطوير البرامج التعليمية أو الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة، فكانت بذلك دولة الحد الأدنى، ويضيف النيفر بالقول أنّ الدولة القائمة كانت مطابقة لما كان يطرحه الفقيه الماوردي، صاحب الأحكام السلطانيّة.
في ذات السياق، يؤكّد احميدة النيفر على أهميّة المقولة الخلدونيّة، التي بنت نظرية تاريخية مرتبطة بالعصبية وبالواقع الاجتماعي تتجاوز مفهوم الشوكة أو القوّة التي صاغتها المدرسة الفقهية التقليديّة، مضيفا أنّ تلك اللبنة الخلدونيّة كان يمكن أن تكون بوابة للعصر الحديث في التأسيس لمفهوم الدولة في علاقتها العضوية بالفاعليّة الاجتماعيّة، لأهميّة ما طرحته من نفى قيام الدولة خارج دائرة الاهتمام السياسي والاجتماعي.
إمكانية البناء على فكرة جيسكار ديستان الأوروبيّة
لئن لم ينكر العجمي الوريمي، باحث مختص في الفلسفة وقيادي في حركة “النهضة”، عدم جهوزيّة نموذج اسلامي للدولة، فإنّه يعتبر أن التعريف القانوني للدولة القائم على مرتكزات ثلاث هي الإقليم الجغرافي والشعب والسلطة السياسية، يبقى تعريفا قاصرا باعتباره يغيّب مكونا أساسيا هو مكوّن الحضارة.
وكبديل لذلك، يرى الوريمي، في حديث مع “عربي21“، بضرورة توفر رؤية إصلاحية حداثية، تفعّل رابطة التعاون الاسلامي وتنشط أدوارها، حتى لا يتم تأبيد هذا الواقع المتأزّم، مضيفا أنّ الرابطة الحاليّة تحمل كلّ العيوب والهنات الموجودة في جسم الأمّة وكياناتها السياسيّة القائمة، وبالتالي فالحل يكمن في ضرورة التفكير في صيغ جديدة يمكنها الاستفادة أو البناء من تجربة الاتحاد الأوروبي، التي أتى بها الرئيس الفرنسي الأسبق، فاليري جيسكار ديستان، عند إعداده لدستور الاتحاد الأوروبي، من ذلك إتيانه بمفهوم جديد سمّي بمفهوم المواطنة القومية والمواطنة الدستوريّة، تجعل من كل أوروبي مواطنا قوميا داخل قوميته المحدودة، ألمانيا كان أو فرنسيا أو غيره، وهو إلى ذلك مواطن مواطنة دستوريّة في إطار الاتحاد الأوروبي، معتبرا أنّ صياغة جيسكار ديستان يمكن أن تكون منطلقا للتأسيس لمفهوم جديد لدولة ما فوق قطريّة، رغم كونها تنزلت ضمن سياق تاريخي وحضاري خاص بها.
ويرى الوريمي أنّ الصيغة التي أتى بها ديستان تبقى الصيغة الأمثل حاليا، من حيث قابليتها للتطبيق إجرائيا وسياسيا وقانونيا، طبعا مع السعي الحثيث إلى البحث عن مشترك إنساني والبحث عن صيغ للتجاوز، لا تؤدي بالضرورة إلى مارد إسلامي يعادي العالم وإنما ينتج عنها حالة جديدة تسهم في إنشاء نظام عالمي جديد، متعدد الأقطاب، قائم على التوازن وعلى العدالة وعلى الاشتراك في البحث عن حلول للإنسانية جمعاء.
ويؤكد الوريمي على أنّ الهياكل السياسية الموجودة حاليا في العالم، تعكس وجود علاقات هيمنة وسيطرة على مقدرات الشعوب المستضعفة، رغم كونها نشأت في سياقات تاريخية وموازين قوى معينة وبعد حروب كونية كانت الغاية منها تفادي فناء البشرية، ولذلك فإن “استعادة الشعوب للثورات الديمقراطية ولحقها في تقرير مصيرها ومستقبلها سوف تكون محددا في تعديل هذا الاختلال القائم في موازين القوى الحضاريّة، شريطة وقوع مصالحات تاريخية عميقة، أهمّها تطبيع الحركات القطرية مع واقعها الجديد والبحث عن صيغ للتجاوز نحو أفق جديد ومختلف”.
في المقابل، يشدد العجمي الوريمي على أنّ إقامة الروابط السياسية الجديدة، ما فوق قطرية، يجب أن تكون وجوبا بأفق حديث وبهياكل سياسية حديثة قائمة على الديمقراطية والتشاركية وقائمة على نزعة تصالحية مع باقي الحضارات والثقافات المختلفة. وفي نفس الوقت يجب أن تقوم على اعتزاز بالتاريخ والهوية، وعلى استعداد للإسهام بإيجابيّة في حل المشاكل التي تتهدد بيئة الانسانيّة ووجودها.
على أهميّة كتابات تيار التحديث الاسلامي في ردم الفجوة الكبيرة، فيما يتعلّق بالتأصيل لقيم الحرية والمجتمع المدني، في الفضاء العربي الإسلامي، على وجه الخصوص مؤلفات العوّا ومحمد عمارة والترابي والغنوشي، فقد غلبت الكتابات الدفاعية المهزوزة، المبشرة بدولة الحرية والعدالة دون تحديد دقيق، على الأدبيات الفكرية الإسلامية المتناولة لمبحث الدولة، ممّا جعل مكتبة الفكر السياسي الإسلامي المعاصر تفتقر لمؤلفات تبين ميكانيزمات الدولة وتقعّد لنظريّة فيها، في زمن معولم متحرّك تحتاج فيه الأمّة أيّما حاجة لقراءة إسلامية تحديثية غير ملتبسة، تبني على واقع المنجز الغربي للدولة ولا تنافي المكسب الحضاري الخصوصي، مثلما يؤكد على ذلك الجامعي احميدة النيفر.