هكذا تغــــــــوّل الغنّوشي..
الأستاذ نصر الدين السويلمي
كثير من الذين لديهم حساسيّة من اختزال المشاريع والإنجازات في الأشخاص تستفزّهم العنونة بالأفراد، يعتبرونها نوعا من الانتهاك للجهد الجمعي، بينما تلك تقاليد لا تعكس الاختزال وإنّما هي شكلا من الاصطلاح ونوعا من الفتْرنة المتعارف عليها، تماما كما نعنون للمجهود البوسني بعزّت بيغوفيتش والمجهود البريطاني أثناء الحرب العالميّة بتشرشل والمجهود التركي بأردوغان والوجه الآخر لتركيا بأتاتورك، هذا لا يعني التبرير، فالأكيد أنّ الأفضل هو ما ينادي به الرأي القائل بتأميم الإنجاز تحت العنوان الجمعي السليم، وإن كان تشرشل وإن كان محمّد الفاتح وإن كان غاندي وإن كان الغنّوشي.. لا جدال في أنّ الإحالة الجمعيّة دائما أسلم من الإحالة الفرديّة، ذلك أنّ الذين يفتحون أرشيف المؤتمر الوطني اليوم سيدركون أنّ الفترنة الفرديّة أثّرت كثيرا على قامات نضاليّة جنوب إفريقيّة، سكّنتها الصّورة الإعلاميّة “التسوناميّة” للزعيم الراحل نيلسون مانديلا.
أعتقد أنّ العالم المتقدّم أو الأصحّ العالم الثريّ ورغم اجتياح المأسسة، مازال يحتاج أو مازال يستعمل عناوين اختزاليّة جاهزة، حتى أنّ مصمّمة أزياء عالميّة حضرت ندوة صحفيّة لتقديم عرضها الذي استغرق إعداده ستة أشهر ودفعت في تأثيثه ملايين الدولارات، لكن الأضواء تجاهلتها، كلّ التركيز كان على العارضة الصاعدة آنذاك الأمريكيّة الصوماليّة شانيل إيمان، عندها ابتسمت صاحبة العرض وغادرت القاعة وهي تردّد ، ذهبت إيمان بالمجهود! الأمر نفسه أو ما يقاربه وقع مع المخرج الكندي جيمس كاميرون مخرج ومنتج فيلم تيتانيك، الذي ظلّ يبتسم في آخر القاعة خلال إحدى مناسبات تكريم الفيلم الكاسح الذي حقّق إيرادات أسطوريّة، كان جيمس يراقب بابتسامة انصراف النّاس من حوله واجتماعهم على إحدى تفصيلات إنجازه الرهيب، كانوا يتدافعون حول ليوناردو دي كابريو، بينما صاحب “كل شيء” يواجه الموقف ببرود وبواقعيّة.
إذا الاختزال هو تقاليد وليس نكران، هو أيضا يندرج ضمن لغة الإيجاز، أن يتحوّل الأفراد إلى عناوين ليس معنى أنّهم يملكون بل هم يتصدّرون فقط، وكثيرا ما نحتاج إلى التعبير عن الكلّ بالجزء أو اعتماد القاطرة للحديث عن القطار، ثمّ أنّه وفي كلّ الأحوال لا يمكن التخلّص من ثقل راشد الغنّوشي كرمز، لا يقرّ بذلك فقط من يعترفون تصريحا للرجل بثقله وعمقه بل يقول به حتى من يضمرون ما لا يبدون، رغم ذلك لابد أن يظلّ اختزال النّهضة في الغنّوشي سنّة قبليّة يجب أن لا تتحوّل إلى سنّة بعديّة، ربّما ينطبق عليها ما قاله عمر بن الخطّاب في حقّ مؤتمر سقيفة بني ساعدة، “تلك فلتة” ونهى أمير المؤمنين عن العودة إليها، ولا يفوتنا أنّ اعتماد النّهضة المفرط على الفترنة الغنّوشية، جاء بعد أن تمايز الرجل عن غيره من خلال حوارات 2013 وتوافقات 2014-2015 والتحكّم في العمليّة الانتقاليّة بــ 89 من نوّاب التأسيسي و 68 من نوّاب برلمان 2014 ثمّ بـ 54 من نوّاب برلمان 2019، ثمّ الحوارات أو الالتحامات الثنائيّة التي ربحها الغنّوشي مع العبّاسي ومع السبسي ومع الشاهد ومع القروي..، كلّ تلك العوامل أسهمت في ارتشاف الغنّوشي للأضواء، أن تقلب شبح الهزيمة المخيّم في زمن قياسي إلى انتصار، هذا يعني أنّك مشروع فترينة لذيذة ومخيفة.
لقد تحوّل الرجل إلى واجهة وطنيّة كما كان منذ التأسيس واجهة “نهضاويّة”، الفرق الوحيد أنّ أنصار النّهضة يمدحون الغنّوشي ثمّ يتعاملون معه كرمز، بينما خصومه يتعاملون معه كرمز ثمّ يشتمونه، الرمزيّة حاصلة لدى الجميع، فقط تفرّق الشمل في المدح والهجاء.
لك أن تعرّض بالغنّوشي.. أن تمدح وتذمّ.. أن تلاحق عباراته وتأولها أو تثبتها أو تنقّيها أو تنزّهها أو تجرّمها.. لك ذلك، لكن كلّ ذلك لا يمكن أن يحجب الحقيقة، لقد تمّت أرشفة الرجل بنجاح، دخل الذاكرة وأصبح من مكوّناتها، البحث في غير ذلك من حقّ الجميع، البحث في ذلك والسعي إلى طرد الغنّوشي من الذاكرة والإبقاء على من هم دونه بكثير، كمن يرمي سنّارته في صحراء دوز يبحث عن مرجانة جميلة، حمراء وعذراء.