Site icon Barcha News

الشعب التونسي يتعلّم الانضباط زمن الكُورونا

انضباط الشعب التونسي زمن الكورونا

كتب الأستاذ نوفل سلامة مقالًا نشره موقع “الصريح أونلاين” تحدث فيه عن الشعب التونسي الذي يمكن أن يستفيد من أزمة وباء كورونا التي تعيشها تونس والعالم، وذلك بتعلّم الانضباط بعيدًا عن التخلف والتراجع الحضاري والمدني والمواطني.

وهذا هو المقال كاملًا:

 

كنت ولا أزال أعتبر أن الشعوب العربية ومنها الشعب التونسي هي شعوب قد حكمت على نفسها بالتخلف في جميع المجالات والميادين وأن واقعها يشهد بتراجعها الحضاري وأن هذا الواقع المتخلف قد جعل منها شعوبا خارج التاريخ وخارج الدورة الحضارية التي تحدث عنها العلامة ابن خلدون حينما ذكر أن للحضارات وللدول دورات حضارية تمر بها بين صعود ونزول وأن قانون الحضارة يمر عبر مرحلة موت ومرحلة حياة الحضارات وهذا يعني أن لكل أمة دورة حضارية في فترة من الزمن تكون فيها رائدة وقائدة للعالم وفي أخرى يفل إشعاعها ونفوذها وتترك مكانها إلى أمة أخرى وحضارة جديدة. وبناء على فكرة الدورة الحضارية فإن الحضارة العربية الاسلامية قد تركت في لحظة من الزمن مكانها الريادي إلى الحضارة الأوروبية بعد أن ورثت المكانة عن الحضارة الفارسية والرومانية اللتين سبقتاها ويفترض حسب هذا القانون أن يستعيد العرب والمسلمون الدورة الحضارية من جديد أو أن يخلف شعب آخر وأمة أخرى الريادة الحضارية عن الغرب متى أدركت عناصر التفوق الحضاري أو ملكت ناصية العلم والتفوق الاقتصادي والتكنولوجي غير أن الوضع اليوم وما هو موجود في هذه المرحلة من تاريخ الإنسانية أن الغرب يعمل على تكذيب نظرية بن خلدون حول صعود وهبوط الحضارات ويجتهد حتى لا يصدق قانونه حول ظهور وأفول الحضارات وكل الجهد الغربي منصب اليوم نحو السير في خط متواصل ودائم نحو المستقبل ونحو المزيد من التفوق في كل المجالات والميادين من دون أي توقف أو انحناء ولو للحظة  عن تحقيق المزيد من الاكتشافات والنجاحات العلمية واعتبار أن كل ما توصل إليه الإنسان الأوروبي ليس هو نهاية العلم وأن كل ما حققه غير كاف وهذه العقلية هي اليوم ثقافة تحكم العقل الأوروبي تجعل من الغرب في مكانة متقدمة دوما وإلى ما لا نهاية.

لماذا هذا التخلّف والتراجع الحضاري والمدني والمواطني؟

 

حينما تفكر لماذا نحن على هذه الشاكلة من التخلف والتراجع الحضاري والمدني والمواطني؟ ولماذا حياتنا وعيشنا مختلف عما نجده في الأمم الحية والشعوب المتقدمة؟ ولماذا نحن شعوب لا نحترم الوقت ونستهين بالنظافة ولا نقدر العمل؟ ولماذا نحن أمة لا تقرأ ولا تولي بالا للعلم والثقافة؟ ولماذا نحن أمة لا تحترم القوانين وبها الكثير من العيوب والعاهات التي تعيقها عن التقدم وتحقيق النجاح الحضاري والتفوق المدني؟.

حينما نفكر في كل ذلك نجد أن أزمتنا مقعدة وعميقة وأسبابها متداخلة وهذا التشخيص هو الذي فرض الانطباع الذي يقول نحن أمة و شعوب لن نستطيع مهما فعلنا أن نلتحق بركب الأمم التي قطعت أشواطا طويلة في الحضارة والتطور العلمي وفاتها ركب المدنية وركب الشعوب المتحضرة .. ولكن هذا الانطباع وهذا الحكم عن موت الأمة العربية وعن صعوبة أن نلتحق بما وصلت إليه الشعوب الغربية ، هذا الانطباع بدأ يعرف بريق أمل للتخلي عنه والخروج عن طوقه وبدأ يشهد بوادر كسر هذا الأسر الذي يمنعنا من الانطلاق مع ما يحصل في العالم من اكتساح وباء الكورونا وارتداداته على الواقع التونسي الذي شمله هو الآخر البعض من تداعياته الخطيرة.

من الاستهتار إلى الانضباط

 

اليوم وبعد الانطلاقة المحتشمة في التعامل مع هذا الوباء وبعد الاستهتار الكبير الذي حصل من قبل الكثير من أبناء الشعب التونسي الذين تعاملوا مع هذا الوافد الجديد بكثير من الاستهانة والاستهتار وبعد أن خاب أمل الحكومة في التعويل بادئ الامر على وعي الشعب ومسؤولية أفراده في الالتزام بتعليماتها وبالنصائح الطبية التي تقدمها وتوخي الحذر والحيطة في محاصرة هذا الفيروس القاتل بدأنا نشعر تحولا كبيرا في سلوك التونسي ونلمس تصرفا مغايرا فيه الكثير من المسؤولية والانضباط حيث بدأنا نرى تصرفا تلقائيا بإلتزام بما تم اتخاذه من قرارات حكومية وانضباطا في إدارة الحياة العامة وتدبير الشؤون اليومية وبدأنا نشاهد الانضباط التام والصارم في احترام اجراءات الدخول إلى المغازات والإدارات والبنوك وكل مكان عمومي وهو مشهد مفرح ومشجع ينم على بداية تحول في سلوك المواطن.

استخلاص الدروس من أزمة كورونا

 

إن استخلاص الدروس من هذه الجائحة التي حلت بالعالم والإنسانية مازال مبكرا ولكن الملاحظة الأولى لما يحصل اليوم في الشعب التونسي هو صورة الانضباط التي بدأنا نلحظها والالتزام بتطبيق القرارات واحترام الاجراءات التي اتخذت والانضباط له قصة مع الشعوب المتحضرة التي لم تحقق نهضتها وتقدمها وتصل إلى تحقيق الريادة الحضارية إلا بفضل جملة من عناصر القوة من أهمها قيمة الانضباط ولعل الدرس الصيني وقدرة هذا البلد على التغلب على الأزمة التي ألمت به من وراء وباء الكورونا وتمكنه من الحد من أضراره كان بفضل انضباط شعبه وقدرة السياسيين على فرضه بفضل ملايين الكاميرات المركزة في كل مكان وبفضل التطبيقات الإعلامية على الهواتف الجوالة التي تحدد الأماكن الموبوءة والأماكن الآمنة  وهو نفس الانضباط الذي اعتمدته أوروبا في نهاية القرن السابع عشر عندما اجتاحها الطاعون حيث يورد المؤرخون أنه تمّ تقسيم المدن والأحياء ووضع إداريين عليها يتولون إغلاق كل بيت وأخذ المفتاح معهم بعد أن تكون العائلة قد أعدت مؤونتها ومن يومها دخلت أوروبا ثقافة الانضباط  وتحمل المسؤولية واحترام القانون ومراعاة كل الاجراءات التي تساعد على العيش السليم والحياة الكريمة وبالانضباط أصبحت الكثير من الشعوب المتخلفة ناهضة وحققت نقلة نوعية من واقع التخلف والتراجع إلى واقع التقدم والنهضة فكل الدراسات التي تناولت أسباب ازدهار كل من اليابان والصين وبلدان آسيا الصاعدة وحوالي عشرين اقتصادا في العالم كان بفضل قيمة الانضباط لدى شعوب هذه الدول. فغالبية الدول التي نراها اليوم في مقدمة الدول المتحكمة في العالم كانت إلى فترة ليست بالبعيدة من بين الدول المتخلفة ولم تفك ارتباطها مع العالم الثالث وحققت صعودا مذهلا إلا بفضل سلوك الانضباط في كل شيء وخاصة الانضباط في الحياة العامة.

الروح الجديدة

 

ما نتمناه اليوم ونحن نشاهد هذه الروح الجديدة  التي ظهرت في المجتمع و بات عليها الكثير من أفراد الشعب من الالتزام بالانضباط واحترام الاجراءات والقرارات الحكومية وما تم اقراره لتفادي عدوى الكورونا ومنع انتشاره أن تكون هذه الجائحة نقطة البداية للإقلاع الكبير ونقطة تحول في الذهنية العامة ونقطة تحول في مسار حياتنا وتاريخنا .. ما نتمناه ونحن نصارع هذه الأزمة أن تصبح قيمة الانضباط من الآن ثقافة عندنا والتزاما يوميا يجعلنا نتخلى عن كل مظاهر التسيب والاستهتار واللامبالاة التي تميز قسم كبير من الشعب .. ما نرجوه أن تحقق جائحة الكورونا ما لم تقدر على تحقيقه طريقة تديننا المتوارث وخطابنا الديني التقليدي السائد وتعليمنا ومقرراتنا التربوية أن تحققه ما نتمناه أن يصبح الشعب التونسي شعبا منضبطا ومسؤولا بعد تداعيات فيروس الكورونا فلعل هذا الوباء يحقق ما عجزت عن تحقيقه كل السياسات الحكومية وفشل في الوصول إليه التعليم والفكر والثقافة. (الصريح أونلاين)

Views: 0
Exit mobile version