المنعـــرج
الأستاذ مصباح شنيب
سنتا 1967 و1968 كانتا حلقة انضافت إلى حلقات أخرى في سلسلة البؤس والفقر التي ضربت الشعب التونسي وخاصة الجنوب الشرقي الذي كابد، فضلًا عن ذلك مخلفات الجفاف وانعدام المحاصيل الزراعية الشحيحة بطبعها. فتلبدت الأجواء بوشاح من السّواد فوهنت الأنفس الحيرى ودهاها قلق مكين أقضّ مضجعها وعكّر هدوءها.
انتشار الفقر
مخزون الحبوب المودع بعضُه بغرف القصور، والقليل الآخر بالمطامير بدأ في النفاد والمواشي يتعالى ثغاؤها تضورًا من الجوع والعطش، وبعض رؤوس الإبل لا تجد ما به تقيم أودها عدا بعض أغصان التين التي تجري بالكاد في نسغها رطوبة احتفظت بها تحت قشرتها الغليظة.
وكان من في ملكيته رأس أو رأسان من الإبل يعمد إلى قطع أغصان التّين ثم يقسمها بآلة حادة مثل القادوم وغيره إلى قطع صغيرة وإذا تجمع له منها مقدار لا بأس به يتولى خلطها بالنخالة ورشّها بالماء لإكسابها شيئًا من الطراوة تجعل مضغها ميسورًا.
لا يستطيع البدو التخلص من رؤوس الإبل لأنّ أيًّا منهم لا يستطيع التنقل في تجوالهم الدائم بحثًا عن الماء والكلإ ولا حرث ما يملكون من الأراضي في السنوات التي ينزل فيها الغيث.
مسار التعاضد
لا شيء يومض ببصيص من الأمل، فالبلاد تنهي شيئا فشيئا مسار التعاضد وتقطع مع منوال اقتصادي فشل في تحقيق التنمية المنشودة لأسباب يطول شرحها.. والجفاف يحكم قبضته على الأهالي والسوائم، والأخبار الآتية من الشرق تحمل في طياتها أخبار النكسة وعار الهزيمة المدويّة.
الأنفس تزداد ضيقًا ونذر الأزمة تسدّ الأفق. يجلس أرباب العوائل في ظلّ الدور الواطئة لا يرفع الواحد منهم بصره في عيني الآخر، بل تراه مصوّبًا نظره إلى الأرض وبيده عود من شجيرة الرّتم يخطّ به مربعات مغلقة على الأرض ثم يمسحها ويعود إلى رسمها من جديد في عملية بحث مسترسلة عن شيء مفقود.
الهجرة إلى فرنسا
لم يكن أمام الحكومة من حلّ لهذه الأزمة المطبقة إلّا تعميم الحضائر بمساعدة من مشروع الغذاء العالمي ثم فتح باب الهجرة إلى فرنسا الذي ظل مشرّعًا إلى أواسط السبعينات.
كانت عائلتنا تتركب من خمسة أفراد ومن ضمنهم جدّتي الطاعنة في السن… ولم يكن من السّهل على ابنها مفارقتها وهي في شيخوختها المتقدمة لكنه كان مضطرا إلى الهجرة إذ لم يكن في الأفق حلّ يعالج الخصاصة التي كانت تنذر بالمسغبة وسوء التغذية فضلًا عن مستلزمات كثيرة لا تستقيم الحياة بدونها منها السكن اللائق وتعليم الأولاد ..
وأخذ أبي في إعداد أوراق السفر وتهيّأ للّحاق ببعض أفراد العائلة الذين استقروا بعد بفرنسا. كان قرار السفر ثقيلًا عليه وهو الذي لا يعرف من برّ تونس إلا بعض المدن الكبيرة وبعض المناطق الزراعية قي الشمال خلال التغريبات التي تفرضها الحاجة لتوفير الرزق.
التحوّل الشّاقّ
وكان ارتداء زيّ إفرنجي أمرًا مؤذيًا بالنسبة إليه، فالتّخلّي عن عباءته الصوفية لم يكن هيّنًا، فهذا التغيير في الشكل كان بالنسبة إليه مسرحية سمجة لا تليق بوقاره، ولم يكن له من أدوات التحليل ما به يقنع نفسه بأن جزءًا كبيرًا من تلك الهيبة قد تبخّر منذ أصبح محكومًا فينا من المستعمرين، ومنذ تقاسمت البدان الاستعمارية أوطاننا، لذلك كان هذا التحوّل مضنيًا وشاقًّا على نفسه.