اعتقدت واشنطن، منذ بداية اندلاع حرب أسعار النفط الحالية، أنها سوف تحقق أهدافها، وأهداف حليفتها الرياض، على حساب مصالح الدول النفطية التي ترفض الهيمنة الاستعمارية الأميركية، وفي مقدّمها روسيا وإيران وفنزويلا، وهي من ضمن قائمة الدول التي تتعرض للحصار الاقتصادي والمالي الأميركي، والهادف إلى محاولة إخضاعها للشروط والإملاءات الأميركية.
الضوء الأخضر من أمريكا
الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعطى ما يشبه الضوء الأخضر لولي العهد السعودي محمد بن سلمان لخوض هذه الحرب، لمجرد عدم التدخل لمنع حصول انهيار دراماتيكي في أسعار النفط، وذلك اعتقاداً انّ مثل هذا الانخفاض في الأسعار، سوف يؤدّي إلى تحقيق هدفين يصبّان في خدمة سياساته… الهدف الأول، توفير أسعار متدنية للمستهلك الأميركي في هذه المرحلة يخدم سعيه لزيادة شعبيته عشية الانتخابات الرئاسية.. والهدف الثاني، إضعاف العائدات المالية المتأتية من عمليات بيع النفط لكلّ من موسكو وطهران وكركاس، بما يقود إلى إخضاعها لمعاملة جديدة في «أوبك بلاس» تهيمن عليها واشنطن بواسطة الرياض، وتقضي بخفض حصة هذه الدول من إنتاج النفط العالمي لمصلحة الإبقاء على حصة أميركا والسعودية كما هي..
غير أنّ حساب الحقل لم يأت متطابقاً مع حساب البيدر.. ما حصل أنّ السحر انقلب على الساحر، فحرب الأسعار وانخفاض سعر برميل النفط إلى نحو عشرين دولارًا أدّى إلى انعكاسات سلبية على كلّ من الرياض وواشنطن، وذلك للأسباب التالية.
الضغط الأمريكي السعودي
السبب الأول، رفض روسيا الخضوع للابتزاز والضغط الأميركي السعودي، وقبولها خوض حرب خفض الأسعار، وبالتالي عدم السماح للولايات المتحدة والسعودية بالهيمنة على أوبك بلاس، وبالتالي التحكم بتحديد كميات الإنتاج صعوداً وهبوط لكلّ دولة من الدول المنتجة للنفط..
السبب الثاني، أنّ التراجع الكبير في أسعار النفط أدّى إلى إلحاق خسائر جسيمة بشركات النفط الأميركية المنتجة للنفط الصخري، وهو ما تمثل في بدء الإعلان عن إفلاس بعضها.. فيما السعودية بدأت تئنّ من التراجع الكبير في عائداتها وتفاقم العجز في موازنتها، في وقت تعاني فيه من ارتفاع كبير في كلفة حربها التدميرية ضدّ اليمن..
هذه النتائج مرشحة لأن تستمرّ وتتفاقم نتيجة استعداد روسيا لتحمل انخفاض الأسعار لوقت طويل كونها لا تعتمد في مدخولها سوى على 37 بالمئة من عائدات بيع النفط، على عكس واشنطن والرياض اللتين لا يمكنهما تحمّل ذلك.. ولهذا فإنّ إدارة ترامب التي كانت تتفرّج ولا تحرك ساكناً في البداية، سارعت إلى التدخل للحدّ من حصول المزيد من النتائج والتداعيات السلبية على قطاع النفط الأميركي، ومن أجل إنقاذ الرياض من مأزقها وورطتها..
التّدهور في أسعار النفط
بناءً على ذلك، عمد ترامب إلى الاتصال بنظيره الروسي الرئيس فلاديمير بوتين لمحاولة وقف التدهور في أسعار النفط عبر إيجاد حلّ وسط بشأن خفض كميات الإنتاج وكيفية تحديد نسبة كلّ دولة من هذا الخفض.. لكن بوتين، الذي كان ينتظر هذا الاتصال، وجد الفرصة المواتية لإعادة التوازن في سوق توزيع الحصص على نحو يضع حداً لتحكم واشنطن والرياض، فطالب بإعادة توزيع عادل لحصص الإنتاج بحيث يكون تخفيض الكميات متوازناً بشكل عادل بين الدول المنتجة، وهذا بالطبع يشمل ايضاً الولايات المتحدة.. ويدرك ترامب جيداً أنّ عدم الاستجابة لمطلب بوتين العادل سوف يؤدّي إلى تفاقم أزمة الشركات النفطية الأميركية وانهيار قطاع النفط الصخري خصوصاً أن أسعار برميل النفط في ظلّ استمرار حرب الأسعار مرشح أن يصل سعره إلى نحو خمس دولارات، مما يشكل كارثة على السعودية أيضاً التي تعتمد في مدخولها بنسبة تتجاوز الـ 80 بالمئة على عائدات النفط.. ولهذا فإنّ ترامب مضطر إلى ممارسة الضغط على الرياض لقبول تقديم التنازلات لموسكو..
بوتين يدير المعركة
واستطراداً قبول خفض إنتاجها من النفط.. من الواضح أنّ بوتين، الذي يدير المعركة نيابة عن جميع الدول النفطية المتضررة من هيمنة وتحكم واشنطن والرياض، يدرك جيداً أنّ هذا هو أوان تصحيح المعادلة، ولهذا فقد سارع الكرملين إلى نفي تأكيد ترامب عن وجود محادثات روسية سعودية لإيجاد حلّ للأزمة القائمة، وقال، لا توجد خطط للرئيس بوتين للاتصال بالقيادة السعودية، ما يؤشر إلى أنّ موسكو غير مستعجلة، وهي مرتاحة لوضعها، وهي لذلك بانتظار تراجع الرياض وواشنطن والقبول بالمعادلة القائمة على التوازن في توزيع خفض حصص الإنتاج العالمي من النفط على نحو عادل، والتي تقدّر بنحو عشرة مليون برميل في اليوم، الأمر الذي يسقط خطط التحالف الأميركي السعودي… ويبدو أنّ الحديث عن انّ واشنطن تميل الى توجيه اللوم إلى الرياض، يصبّ في هذا المنحى.. وفي هذا السياق يمكن إدراج تشديد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، بعد اتصاله مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، «أنّ السعودية لديها فرصة حقيقية لبذل الجهود اللازمة للتعامل مع الوضع الصعب وإعادة طمأنة قطاع الطاقة والأسواق المالية على الصعيد العالمي عندما يواجه العالم حالة من عدم اليقين الاقتصادي».
بوتين يثأر من ترامب وبن سلمان
من هنا، بدا واضحًا، أنّ سيد الكرملين يرى أنه جاء الوقت الذي يثأر فيه من ترامب وابن سلمان وتدفيعهما ثمن الحصار والضغوط التي مورست وتمارس، على روسيا وإيران وفنزويلا، بما يضع حداً للتلاعب الأميركي السعودي بسوق النفط العالمي، في كلّ مرة تقتضي مصلحة واشنطن والرياض، على حساب مصالح بقية الدول المصدّرة.. ولهذا كان لافتاً ما قاله الرئيس بوتين في اجتماع حول وضع الطاقة بالأسواق العالمية، “لم نبدأ بتفكيك صفقة أوبك بلاس.. نحن مستعدون دائما للتوصل الى اتفاق مع شركائنا بتنسيق أوبك بلاس لتحقيق التوازن في السوق وخفض الإنتاج كنتيجة لهذه الجهود”، مؤكداً أنّ تجنب الاسعار المنخفضة جداً يتطلب وجود توازن فعّال بين العرض والطلب، وأنّ “سعر 42 دولاراً للبرميل مريح لنا وللمستهلكين”..