ننشر اليوم خاطرة رائعة أبدع في حبكها الأستاذ المبدع مصباح شنيب، واختار لها العنوان التالي “مخبأ الذكريات”.
في هذه الخاطرة، يعبر بنا، أستاذنا، أو هو يعبر بنفسه، إلى طفولة لا تشتهي الرحيل، بل هي ترتسم حاضرة بالقوة في سلوكاته، وذكرياته، التي لا يقوى مُبدعنا على جعلها منبع فخر واعتزاز بالانتماء إلى هذه الأرض الطيبة.
مخبأُ الذّكريـات
هي هناك في مخبئها لا يشعر بها عابر السبيل ولا توقظها الهوام والسوام الزاحفة عليها تحت جنح الظلام، ولا يثير انتباهها صفير الرياح، ولا هسهسة الليل، ولا دويّ طائرة نقل عملاقة تشقّ عباب الفضاء، تاركةً وراءها خطًّا أبيض من الدخان، ولا رغاء محرك سيارة هرمة تمزق سكون الليل البهيم.
هي فاصل زمني من طفولة غضّة توزعت ترهاتها على حجارة صلدة وشجيرات مذبّبة ما زالت آلام وخزها للأقدام الحافية راسبةً في الذاكرة، وما تزال الأنفاس المبهورة تلاحق رؤوسًا من الماعز أشرس من تضاريس المكان تعدو في خطٍّ مسترسلٍ لقطف عين زيتونة ناشئة.
هي وقائع الصبا ترتسم أمام أعيننا كلما وقفنا نسبر الأطلال، نستنطقها ساكبين على أديمها رحيق العمر بعد تطواف في دنيا الله الواسعة.
مواكب الأفراح التي لا تحضر دائمًا
تمرّ أمامنا مواكب الأفراح البسيطة تشيّع العروس إلى بيت زوجها تحت ستار من أغاني بدوية جريحة تذيب الصخر، وتجمّد الماء، وعلى اليمين والشمال طوابير بيض من الرجال متلفعين في “حواليهم” النقيّة المفروكة جيدًا بالصابون الأخضر و يضوع منها عطر نفاذٌ يملأ الفضاء برائحة عنيفة كفيلة -اليوم- بإصابة مستنشقها بالدوار لشدة تركيزها.
الرجال البيض ليس لهم من دور إلا إطلاق البارود من بنادق وغدارات عفا عليها الزمان، فتردد الجبال المحيطة أصداء هذا الحفل المتحرك كما لو أننا إزاء معركة لا ينطفئ أوارها.
للأطفال نصيب في مواكب الأفراح
الأطفال الرعاة يحتفلون بهذه المناسبات الصيفية وينتظرونها باحتساب الأيام التي تفصلهم عنها، فهي بالنسبة إليهم لقاء صاخب مع فرح لا يحضر دائمًا في بيئتهم وهي كذلك وليمة يستغلونها لإشباع نهمهم من وجبات دسمة لا يلاقونها في منازلهم الا صدفة.
مواسم الأفراح النادرة في خيال الأطفال عالم مفارق ومأدبة مفتوحة للمشاعر الظمأى إلى الحياة في سخائها النادر.
في تلافيف الذاكرة، تثوي مشاهد مؤلمة عند إغارة الموت على أحد أبناء المنطقة فيدكّ الحزن أهلها جميعًا كما لو كانوا لقلّتهم يخشون الانقراض في هذا الفضاء الخالي من جلّ مقومات الحياة.
الحياة الرتيبة والمستقبل الغامض
الحياة الرتيبة للبدو يهزّها الموت هزًّا وجوديًا عنيفًا ويُخرجها الفرحُ عن المعيش اليوميّ النكد إلى آفاق رحبةٍ من المتعة.
كلُّ مكانٍ أيًّا كان موقعه ينطق بحادثةٍ ما، حزينةً كانت أم مفرحةً، ويسرد على بصرك ومسمعك قصةً لا تتذكرها إلا ما دمت فيه.
مرابعُ الصّبا تأسرك في مساحتها الزمنية، وتأبى عليك أن تلوذَ بالفرار انتصارًا لمستقبلٍ لا تلوح ملامحه كما ترغب أن تكون.
Views: 0