يواصل الأستاذ المبدع مصباح شنيب إمتاعنا بقصص حبكها بسردية رائعة لما تتضمنه من عبارات مرتبطة بحكايا البدوِ وأحاديثهم الجميلة النقيّة من كل شوائب، والمشبّعة بألوان من المفردات التي ضاعت بين ثقافة دخيلة، لا أصل لا ولا فصل.
ولكن الأستاذ شنيب يُعيدنا، برغبة منّا، إلى طفولة جميلة، وإلى تاريخ حافل بالذكريات، التي نستدعيها من حين إلى آخر، فتطلّ علينا، بجميع تفاصيلها، حتى لكأنّنا نعيشها اليوم، هنا والآن.
واحدةٌ بواحدةٍ
الأولى
في القسم، في معهد تطاوين إبّان إحداثه، أنجز متفقد الفرنسية درسًا شاهدًا لأساتذة اللغة الفرنسية، وكان أغلبهم من الفرنسيين جاؤوا من بلادهم ليعملوا متعاونين لدى مستعمرتهم القديمة مقابل إعفائهم من الخدمة العسكرية.
ولم يكونوا أهل اختصاص لأنّ أبناء المستعمرات القديمة يرضون بما تيسّر من التعليم.
كان المتفقد هو الآخر روميًا يأتلق محيّاه الأبيض المشرب بحمرة، ليست بالطبع حمرة الأنبياء، وينعكس بياض قميصه الناصع عليه فيزيده بهاء..
كنت أجلس في الصفّ الأول بوجهٍ لوحته الشمس ولاتزال بقايا بُثور صيفية مبصومة عليه..
كنت أتدبّر ذلك المخلوق النظيف الرشيق وأُصغي إليه بانتباه شديد. وكان الدرس منعقدا حول النّفي والإثبات.
ورغّب المتفقد من خلال أسئلته أن يسجّل على السبورة أمثلة لجمل مثبتة وأخرى منفية. وبما أنّي كنت في الصف الأول كان يستسهل توجيه الأسئلة إليّ، وكان يسألني: هل سافرت في القطار؟، فأجيب دون تردد بالنفي. ويعاود سؤالا آخر: هل سبحت في البحر؟
ولأنّي لم أتعوّد الكذب، كنت دائمًا أُجيب بالنفي ولما تكرّر نفيي، قال لي مازحًا: “أنت صيغة منفية”. فضحك الأساتذة، وتعجبتُ أنا من ذلك الروميّ الأخرق الذي لا يعرف أنّي مولود في خيمة يخفق فيها الريح بفجّ من فجاج الرمل في صحرائنا الواسعة.. ولما كبرت قليلًا، أدركت أنّ الرجل كان يخاطبنا من خلال خلفيته الرومية، وأنّ ما أتاه كان خللًا بيداغوجيًا إذ كان من المطلوب أن نخاطب انطلاقًا من مفردات بيئتنا، وما كان ينبغي أن يسخر منّي لسبب وحيد أنني لست من أرومة رومية.
الثانية
كنت في السنة الرابعة من النظام القديم، وكان أبي قد استقام له الشغل في فرنسا بعد معاناة. وخلال إجازته السنوية قرر أن يتخلص من جملنا الأحمر بالبيع فاستاقه إلى سوق المواشي بتطاوين، ورافقته، تحدوني رغبة للاطلاع على عالم البيع والشراء.
جئنا السوق قبل مشرق الشمس، وقرفصت قريبًا من أبي، وكان ممسكًا برسن الجمل وعنّ له أن يقوم بجولة في السوق للاطلاع على أثمان الإبل، فتولّيت عوضًا عنه الإمساك بالرّسن.
وفي الأثناء، كان سائحان يطوفان، ويلتقطان الصور، واقتربا منّي للفوز ببطاقة بريدية حقيقية قوامها طفلٌ صغيرٌ يُمسك برسن جملٍ عظيمِ الجثة..
وما إن وجّه “زوم” الكامرا صوبنا حتى صرخت في وجهه، ماذا تفعل؟، من أذن لك بذلك؟، أَتظنُّنا من بقايا آثار القرون الغابرة؟. فصعق الرجل، ولم يدر بخلده أن يُنهر على ذلك الحال. وشعرت بزهوٍ أحسستُ معه أنني أحلّق في أجواء سماويةٍ إذ ألحقتُ به إهانةً لم تكن في حسابه.
Views: 0