عاد الكاتب والمبدع عبد اللطيف العلوي إلى سنوات الدراسة من خلال يوم، اعتبره تاريخيًا، يوم شاهد فيلم “الرسالة” الذي مثّل له صدمة العمر.. بل لقطة سقوط حمزة بن عبد المطلب برمح بلال.. يوم انقلبت لديه المفاهيم.. يوم صدّق أنّ الشّرّ يمكن أن يهزم الخير… وأنّ الأبطال يمكن أن يُهزموا ويموتوا..
وهذه تدوينة الأستاذ عبد اللطيف العلوي:
أوّل مرّة شاهدت فيها فيلم الرّسالة كان عمري قد جاوز العاشرة بعام أو عامين.
كان مساء أحد كئيب، ثاني أيّام العيد على ما أذكر، أكاد أعيش اللّحظة بالتّفصيل مرّة أخرى، السّماء غائمة والمطر تزخّ من حين لآخر، والجوّ رماديّ كئيب، وأنا وعمّي، الّذي هو في مثل سنّي مجبران على تنفيذ حكم الضّرورة، لا بدّ أن نعود إلى مبيت المعهد الثّانويّ قبل السّادسة مساء، وإلاّ… فقد يحدث في الكون مالا نجرؤ حتّى على تصوّره. بعد السّادسة يغلق باب الاستقبال، ويضطرّ المتأخّرون إلى البقاء خارجا والعودة ـ إن استطاعوا ــ من حيث أتوا.
كنّا نكره العودة مساء الأحد إلى درجة أنّنا قد نكون سعداء بأيّ طارئ ينجينا من ذلك المصير المرعب، حتّى ولو كان موت أحد أفراد العائلة… المهمّ أن نبقى لليلة أخرى في البيت، بعيدا عن قبضة “سي لمجد” وغيره من القيّمين التّلاميذ الّذين استعبدونا وسامونا سوء العذاب.
مع السّاعة الثّانية بعد الزّوال، انكمشت داخل معطفي كدبّ قطبيّ، وجلست حزينا منتفخ الأوداج، وشغّلت التّلفاز… التّلفاز الكبير الّذي يشبه صندوق عروس قديم، بالأبيض والأسود طبعا، لكنّ سحره كان بلا مثيل، ولم يكن يدور بخلدي أصلا أنّه يمكن أن يوجد تلفزيون بالألوان في أيّ عصر من العصور أو في أيّ بلد من البلدان…
كانت القناة الوحيدة “إ ـ ت ـ ت” تفتتح يوميّا على السّاعة السّادسة مساء، ويوم الأحد بشكل استثنائيّ على السّاعة الثالثة، لكنّها قبل ذلك تضع تلك الواجهة الشّهيرة الثّابتة ذات المربّعات المتداخلة والدّائرة في الوسط، وفيها عدّاد السّاعة الإليكترونية العجيبة، مع أغنية لمحمّد عبد الوهاب أو لرياض السّنباطي بالعود فقط، أو لأمّ كلثوم في الغالب، لمدّة ساعة كاملة، قبل أن ينفتح باب العرش وتختفي على السّاعة الثّالثة تماما وينطلق النّشيد الوطنيّ “ألا خلّدي يا دمانا الغوالي جهاد الوطن”، ثمّ يتبعه فاصل من الذّكر الحكيم.
يومها كان الموعد الأوّل مع فيلم الرّسالة.
وجدت نفسي شيئا فشيئا أندمج في أحداثه وأعيشها كما لو أنّني قفزت بعربة الزّمن إلى ذلك العهد، استولى عليّ الموقف بالكامل، وصار جسمي كلّه عينا مفتوحة لا تطرف، وأذنا صاغية لا تغفل… شدّتني لغته الفخمة السّاحرة، وشخصياته المهيبة، وشعرت للمرّة الأولى في حياتي، بأنّ لي جذورا عظيمة موغلة في الحضارة والقيم والشّموخ… كان إحساسا بلا مثيل…
مع الوصول إلى تلك اللقطة الرهيبة، لقطة ظهور حمزة وصفعه لأبي جهل، وكلمته الشّهيرة: “ردّها عليّ إن استطعت”، دخل أبي وأمرني بالنّهوض والتّوجّه فورا إلى محطّة النّقل الرّيفيّ بـ “دورة المقدّم”، لأنّ الوقت قد تأخّر…
تمنّيت لو تنشقّ الأرض وتبتلع المعهد بمن فيه ودورة المقدّم والطّريق إليه بحجارته وكلابه وأوحاله ومستنقعاته، كي أكمل الشّريط الّذي لم يعد بإمكاني أن أنقطع عنه، كأنّه شدّ أنفاسي إليه شدّا… لكنّ أبي كان إذا أمر، ينتهي كلّ قول بعده…
من الأشياء الغريبة في حياتي، أنّني لا أتذكّر أنّني توسّلت يوما إلى أبي أو رجوته في شيء، لم يكن هناك أبدا أيّ احتمال لأن يغيّر من أمر يوجّهه إليّ، وكان مجرّد التّوسّل إليه يعدّ جرأة ووقاحة لا تغتفر.
عندما وصلت إلى بوسالم، نزلت من النقل الريفي، ومررت بالشّارع الكبير أمام محلّ “الصّحبي” الّذي يبيع أجهزة التّلفاز، وقفت أمام الواجهة البلّوريّة، فرأيت للمرّة الأولى في حياتي تلفزيونا بالألوان… وقفت مأخوذا مسحورا بألوانه العجيبة، ليس الأخضر أخضر كما عرفته دائما في الحقول، ولا الأزرق أزرق كما كنت أراه، وصار الأحمر أحمر ونصف.
وكان فيلم الرّسالة مازال يعرض…
كانت اللّقطة الّتي أدركتها في تلك اللّحظة… لقطة وحشي، وهو يترصّد حمزة برمحه الطّويل، والخيول تتراكض أمام عينيه، والغبار يهيض فيحجب عنه الرّؤية، ثمّ فجأة… ينطلق الرّمح، وينغرس في قلب حمزة…
تصمت الموسيقى، ويترنّح الجبل، ثمّ يسقط..
شعرت بالرّمح ينغرس في صدري أنا، وبقيت لحظات ذاهلا متسمّرا أمام المحلّ، لا أصدّق أنّ الشّرّ يمكن أن يهزم الخير… كلّ ما قرأته قبل ذلك كان يؤكّد أنّ الأبطال لا يهزمون ولا يموتون… لكنّني في ذلك اليوم، تلقّيت صدمة العمر.
كان المطر يهمي رذاذا خفيفا، والوقت يزحف بسرعة نحو السّادسة، أضواء المدينة اشتعلت، وأنا ملتصق بواجهة المحلّ لا أستطيع أن أحرّك قدميّ، كي أدرك الباب قبل أن يغلق…
قبل انتهاء المهلة بدقائق كنت هناك، ألهث في قاعة المراجعة الكئيبة بذاك الطّابق الأوّل، أمام ” سي لمجد”، ذلك الجلف الغليظ القبيح السّليط يضربنا نحن تلاميذ السنة الأولى كلّ ليلة بلا سبب وبشكل جماعيّ بخشبة عريضة طويلة انتزعها من مقعد الطّاولة حتّى تتورّم أيدينا من الضّرب ومن البرد، جلست متوجّسا خائفا أسترق النّظر إليه دون أن يلحظني. بعد دقائق خرج “سي لمجد” إلى بيت الرّاحة، وترك عصاه الغليظة على المكتب لتحرسنا في غيابه… ظللت أسترق النّظر إليها بحذر، ثمّ غافلتها وألقيت نظرة على قسم الفتيات، وسرحت، أفكّر فيما يمكن أن يكون قد حدث لحمزة بعد سقوطه، تصوّرت عشرات السيناريوهات لما يمكن أن يحدث… وفيها جميعا لا يموت حمزة رغم ذلك الرّمح الغادر، ولا يعود “سي لمجد” من بيت الرّاحة أبدا، … بدا لي أنّ أنسب مكان يمكن أن يموت فيه “سي لمجد” هو بيت الرّاحة، وعلى تلك الهيأة الّتي لا يتمنّاها أحد، وقبل أن يتمكّن من أن يمدّ يديه للاستنجاء! كانت تلك أمنيتي فقط، وكم دعوت الله في سرّي أن يتكفّل بذلك الأمر، رغم أنّه كان من المستبعد جدّا أن يمرّ “وحشيّ” من هناك، في ذلك اليوم.
Views: 1