فرنسا تدعو رئيس تونس فماذا تريد من تونس؟
الأستاذ نور الدين العلوي
علم التونسيون من وسائل الإعلام أولا أن فرنسا وجهت دعوة رسمية إلى الرئيس التونسي قيس سعيد لزيارة فرنسا فاضطرت الرئاسة إلى إصدار بيان إعلامي بالأمر، ويجري الآن استيفاء الشكليات لإتمام الزيارة لكن لم نعلم بموضوع الزيارة ولا بأسبابها، خاصة أنها ستكون أول زيارة رسمية بعد وباء الكورونا. ففرنسا نفسها لا تزال تغلق حدودها في وجه الأجانب فهل الأمر على هذه الأهمية وما الذي قد تخفيه هذه الدعوة التي بدت لنا عجولة وغير مرتبة، كأن الأمر جلل. وفي غياب الشفافية بل في أجواء من الغموض يحيط بتصرفات الرئيس وقراراته ليس لنا إلا التوقع وعسى أن نصيب من الحقيقة جانبا في تأويل هذه الزيارة الغريبة، التي تحل في أجواء متوترة ضد الوجود الفرنسي في تونس وفي المنطقة وتقرأ تحركاتها الدبلوماسية بريبة كبيرة.
ليبيا موضوع ساخن
من الواضح أن سير المعارك في ليبيا انتهى لغير صالح فرنسا ذات الموقفين.فقد كانت فرنسا تتحدث بشرعية طرابلس وتمول حفتر بالسلاح والخبرة العسكرية، وخسرت على الجبهتين فلم تعد ذات حظوة مع حكام طرابلس المنتصرين وولى حفتر الأدبار مهزوما. ونال الحظوة عندهم الغريم التركي الذي ملك مفاتيح الدخول إلى ليبيا وثرواتها وخاصة مفاتيح إعادة الإعمار وهي وجبة دسمة زادتها الكورونا إغراء. فاقتصاد العالم توقف وينتظر فرصة ظهور جديدة تبدو ليبيا فيها واعدة بالكثير.
فضلا عن ذلك فإن الأمريكيين يبحثون عن موقع قدم عسكري على باب أفريقيا من جهة المتوسط. وقد راج في تونس أنهم طلبوا مقرا أرضيا في الجنوب لقوات الأفريكوم فلم ينالوه رسميا حتى الآن ويتحسسون رفضا شعبيا يخشون أن يتجاوز سيطرة حكومة لا تسيطر إلا على القليل من شارعها. وفرنسا رغم نفوذها غير الرسمي وغير المعلن على الجنوب التونسي منذ اتفاقيات الاستقلال لا تزال تبحث عن موطئ قدم هناك. هذا وقد تبذل من أجله الكثير استباقا لما بات معلوما في تونس وليبيا من تمكن الأتراك من مواقع نفوذ اقتصادي وعسكري تتسع بسرعة في ليبيا ولها كما هو معلوم أصدقاء في تونس قد يفضلون التعاون معها على التعاون مع فرنسا ذات الوجه الاستعماري. من هذه الزاوية قد تكون دعوة الرئيس إلى فرنسا تمهيدا لمشاريع تعاون عسكري بين البلدين،خاصة وقد سبقت هذه الزيارة زيارة وزير الدفاع الفرنسي لتونس في مايو 2020 وقبلها زيارة رئيس أركان جيش البر الفرنسي، ولم يتسرب أي خبر عن فحوى الزيارتين غير الجمل المعتادة من الحديث عن القضايا ذات الاهتمام المشترك.
مغرب عربي إسلامي يهدد مصالح فرنسا ووجودها
لم يصبح المغرب العربي من النيل إلى الأطلسي إسلاميا ولا يحكمه إسلاميون بل هناك مؤشرات قوية على أنه لا يمكن القضاء على جماعات الإسلام السياسي التي تناصبها فرنسا العداء.(لا أتحدث عن نيات الإسلاميين تجاه فرنسا فهي غير مقبولة ولو عبرت عن نفسها بخضوع واستكانة فمستوى الثقة منعدم) وتقدم حالة حزب النهضة التونسي درسا مفيدا للرؤية الإستراتيجية الفرنسية. فالحزب رغم ما تعرض له من قصف مركز منذ وجوده فلا يزال موجودا ويزداد قوة وكلما اتسعت الديمقراطية أخذ منها القسط الأوفر، بينما تتلاشى المكونات الفرانكفونية واليسارية القريبة ثقافيا من فرنسا أمامه.
ويبدو أن وجود الأتراك الإسلاميين في ليبيا ووجود نظام ليبي جديد غير استئصالي يأخذ فيه إسلاميون موقعا قويا يهدد فرنسا ومصالحها تهديدا جديا خاصة إذا ربطنا ذلك بإمكانيات إسلاميي الجزائر ومصر حيث لا يموت الإخوان ويخسر العسكر. سمعته.
إذا نظرنا من هذه الزاوية فإن دعوة الرئيس التونسي الذي لا يظهر ودا كثيرا للإسلاميين، وتكشف دائرته الخاصة عداء استئصاليا قطع وشائج التواصل بينهما وصل الأمر إلى إغلاق الهاتف في وجه الغنوشي، فإن الدعوة تصبح محاولة تجييش أخيرة للرئيس وفريقه(المجهول) لإعادة معركة قديمة في تونس موجهة ضد الإسلاميين.
إعادة فتح هذه المعركة التي توشك أن تنتهي يهدف إلى عادة خلط الأوراق في تونس باستعادة معارك الاستئصال بهدف إقصاء الإسلاميين بواسطة كل من قد يتحالف مع الرئيس ضدهم. غير أننا لا نميل كثيرا إلى هذا الطرح الذي يطيب لكثير من الإسلاميين ترويجه، للاستفادة من وضع الضحية المطارد لكن لا يغيب عن ظننا أن الفرنسيين يعرفون مساحة الفعل المحدودة للرئيس بحكم الدستور الحالي فهو لا يحتكم إلى الكثير من السلطة التنفيذية كما أن الجيش التونسي ليس منسجما مع أي طرح استئصالي قد يوظف لتحقيقه.(وقد نأى بنفسه عن هذه المعركة منذ انطلاق الثورة).
ويتبلور موقف سياسي جديد في تونس يقوده رئيس الحكومة غير الإسلامي وغير الاستئصالي مفاده أنه لا استقرار سياسيا إذا أقصي الإسلاميون. فمكونات المشهد جميعها غير قابلة للوقوف على أقدام صلبة إذا لم تستند إلى النهضة (وهذه المسألة تصيب فرنسا في السويداء).
ماذا يبقى للرئيس أن يقدمه لفرنسا في معركتها حول ليبيا وحول المغرب العربي عامة؟ لا نرى الكثير. تنظر فرنسا إلى الجزائر فلا تجد أصدقاءها القدامى وتجد عسكر الجزائر يجامل شعبه ويتدرج مرغما نحو الديمقراطية وتنظر إلى تونس فتجد ديمقراطية تبنى مع الإسلاميين الذين طالما حاربتهم وتنظر إلى ليبيا فتجد تركيا الإسلامية تمسك بوابات طرابلس الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ويوشك نظامها أن يكون إسلاميا، وتنظر إلى مصر فتجد عسكرها يخسر على كل الجبهات ويذبح شعبه في الزنازين. لقد وصل بها الهوان وقلة الحيلة أن راهنت على حفتر وكان ذلك في حد ذاته عنوان هزيمة ماحقة للثورة الفرنسية فماذا بيد قيس سعيد؟.
اللعب بعد صفارة الحكم
لقد صفر حكم التاريخ نهاية دور فرنسا في المغرب العربي، وهي الآن بمثابة من نزل الملعب بعد صفارة نهاية اللعبة وهي تستعين بلاعب بلا قدمين ليقوم بدور هجومي ويسجل في شباك فارغة وبلا جمهور. غير أن الهزيمة التاريخية لا تعني نهاية الكِبر الفرنسي، فشكل الزيارة لم يخرج عن هذا الغرور القاتل. ففي اللحظة التي تحتاج فيها فرنسا نصيرا أخيرا لمعاركها في شمال أفريقيا لا تتنازل لتأتيه بل تدعوه بشكل عاجل وغامض فيلبي خوفا ربما أو جهلا بمعطيات اللحظة التاريخية في المنطقة.
لذلك ضيع على بلده فرصة ثمينة أن يكون في قمة أفريقيا الصين التي تتجمع فيها كل سلطات القرار الأفريقية، بحثا عن شريك جديد لا يقود الانقلابات العسكرية ضد الحكام متى رغب في استبدال حاكم بآخر (وهو هواية فرنسية في أفريقيا) ورئيس تونس إذ يسارع إلى فرنسا يكشف غربته عن حاجة بلاده وعن بعده عن تطلعات شعبه، ويتحرك في زاروب ضيق ظن أنه مازال يؤدي إلى مكان ما.
هذا الغرور الاستعماري الذي ينتج وهم قوتها في نفوس مستعمراتها القديمة ويبث الرعب في نفوس النخب المستعمرة، هو الذي قطع ويقطع أقدام فرنسا من المغرب العربي، الذي لم تنفك تنظر إليه كمستعمرات خانعة. لذلك فهي تتفضل باستقبال رؤسائه لتملي عليهم. وقد وجدت فيهم دوما الخادم المطيع.
لكن ريح الربيع العربي غيرت اتجاه السفينة. بوصلة شمال أفريقيا لم تعد فرنسا. وهامش الحرية انفتح لذلك نكتب بحرية ونبحث عن رئيس لا يلبي دعوة فرنسا على العشاء الأخير.