يقدم الدكتور منصف المرزوقي الطبعة الرابعة لكتابه: “الرحلة: مذكرات آدميّ” التي ظهرت أخيرًا، فيما نشرت الطبعة الأولى في العام 2002 عندما كان محاصرًا في بيته بسوسة وممنوعًا من السفر من طرف الرئيس بن علي.
وقدّم الرئيس التونسي الأسبق الدكتور محمد المنصف المرزوقي الطبعة الرابعة لكتابه “الرحلة”، فكتب: “صيف 1994، خرجت من السجن لأجد نفسي محاصرًا في بيتي، محروما من السفر، ممنوعا من مباشرة عملي كطبيب أعصاب في مصحات الضمان الاجتماعي (بانتظار عزلي نهائيا سنة 2000 من وظيفتي كأستاذ الطب الجماعي بكلية الطب في سوسة)
قلت في نفسي ربّ ضارة نافعة. أخيرا كل الوقت للتفكير والكتابة.
الكتابة في مواضيع طبية؟، لكن بأي معطيات وقد حُرمت من التواصل مع فريق البحث الذي كنت أشرف عليه في الكلية.
الديمقراطية، حقوق الإنسان؟ الثورة؟ وضع العرب؟ مشاكل أرهقتني كثيرا وآن الأوان لنسيانها مؤقتا والترويح عن النفس بمواضيع أقل توتيرا للأعصاب.
لم يبق إلا الكتابة الأدبية فهي ليست بحاجة لمعطيات وستنسيني لحظة هموم السياسة.
لماذا لا أكتب… رواية من الخيال العلمي؟
يا للفكرة الغريبة! يقال ”إذا عرف السبب بطل العجب”.
السبب نهم قديم لهذا النوع من الأدب أدمنت عليه وأنا مراهق. بمرور السنين اكتسبت معرفة واسعة بأعمال أشهر كتّابه مثل إسحاق أزيموف وأرثور كلارك وفرانك هربرت وفيليب ديك وغيرهم.
وبالمناسبة، ليس صدفة أن جلّ كتب هذا الأدب بالإنجليزية وجلّ الكتاب من الأمريكيين، مثلما ليس صدفة أن دخول الصين العشرية الأخيرة هذا الميدان علامة إضافية على دخولها المستقبل من أوسع أبوابه. كذلك ليس صدفة ندرة روايات الخيال العلمي بالعربية ونحن في الوضع المأساوي الذي نعرف والتخلف التكنولوجي الذي عجزنا لحد الآن عن تجاوزه.
إذا عزمت وتوكلت لإنقاذ شرف الأدب العربي الغارق في قصص فرسان وتجّار وفلاحين وثوّار أستبق نهوض أمة لا زالت عالة على صنّاع المعرفة وكل أملي أن يأتي يوما تتدارك فيه تخلّفها في كل الميادين ومنها أدب الخيال العلمي.
ماذا عن عقدة الرواية؟
لم لا تكون عن نزول بعثة كائنات متقدمة جاءت من مجرة العقرب واكتشفت الأرض بعد أن دمّرها البشر وانقرضوا؟
فكرة مبتدئين رُويت ألف مرة.
قلت سأجعل المستكشفين يسقطون بالصدفة على وثيقة لراوي مجهول تعطيهم فكرة عن الكائنات التي سكنت هذا الكوكب وتشبع فضولهم بخصوص أسباب انقراضهم.
تطوّر ملحوظ لكن غير كاف وعلى كل حال استعملت الفكرة في أكثر من كتاب وفيلم.
إذن سأجعلهم يفكّون رموز الوثيقة لتحقيق مهمّة لم يتجاسر أي كاتب خيال علمي حتى على مجرّد تصورها: إعادة بعث العالم المجهول والراوي نفسه.
إنها فكرة تبدو مجنونة وربما هي مجنونة فعلا، لكن انظر صنّاع ألعاب الفيديو وهم يبرمجون عبر ما تسمح به شطحات المخيلة وقدرات الحواسيب عوالم افتراضية حتى وإن كانت بالغة البدائية. ما الذي يمنع من تخيّل كائنات تسبقنا بسنوات ضوئية في ميدان التطور العلمي والتكنولوجي تكون قادرة ابتداء من معطيات دقيقة صنع عوالم لا يمكن التفريق بينها وبين العوالم الحقيقية وحتى إعادة بعث التي اندثرت؟.
استهوتني الفكرة فانطلقت الكتابة في هذا الاتجاه لترتطم سريعا بأولى الصعوبات.
حتى لا أكون مسؤولا عن ولادة عالم مشوّه، وحتى ينجح المبرمجون الأشاوس من أداء مهمتهم، لابدّ من مدّهم بكمّ هائل من المعطيات البالغة الدقة: ما هيكلية العالم المندثر؟ ما طبيعة الجنس الذي عاش فيه ردحا من الزمان والذي تسميه الوثيقة الآدمية؟ من أين خرجت هذه الآدمية وكيف عاشت في هذا العالم ولماذا انقرضت؟ ثم من هو هذا الراوي؟ هل القصة التي يروي صادقة أم مضلّلة؟ إلى أي مدى يمكن انطلاقا منها التعميم واستنتاج بعض الثوابت لأدق معرفة ببني جنسه؟.
باستعراض هذه الأسئلة اتضحت استحالة الردّ عليها بالحدّ الأدنى من المصداقية.
الأخطر انتباهي أنني لم أفكّر فيها يوما بصفة جدية.
طبعا، كنت ككل البشر أمرّ بفترات تداهمني فيها بقوة الأسئلة التي سماها دستويفسكي بالأسئلة اللعينة والتي وضعها إيليا أبو ماضي في أجمل الأبيات.
لكنها كانت تعود بسرعة إلى مناطق الظلّ من الوعي ومشاغل الصراع من أجل البقاء تفرض أسئلة أكثر إلحاحا من نوع من أين سأدفع أقساط القرض المنزلي؟ كيف التعامل مع بنت تدخل مراهقة صعبة؟ ما مصير معركة غير متكافئة مع دولة عصابات حاولت اغتيالي مرتين؟.
نعم، كانت لي بعض الردود على أسئلة إيليا أبو ماضي أخذتها من هذه الفلسفة ومن تلك، من هذا الشاعر ومن ذاك وكان عليّ إظهار الكثير من الصبر والتأدب مع أصحاب القناعات المطلقة المفروضة بمختلف أنواع الإرهاب الفكري.
إلا أنّ هذه الردود كانت موزعة داخل ذاكرتي في ملفات متفرقة لا يربط بينها رابط شأنها في هذا شأن المعطيات المتضاربة عن العالم الذي عرفت بروائعه وفظاعاته، ببشره الذين عايشت أحسن ما فيهم وأسوأ ما فيهم وبذاتي وصراعها من أجل حياة أفضل لي ولكل الناس.
إذن لماذا لا أحاول، وقد وفرّت لي الوضعية الجديدة فرصة ذهبية من السكون والتفرغ، ترتيب كل هذه الملفات المتراكمة عقدا بعد عقد؟ لماذا لا أعود إلى الأسئلة اللعينة لا لإرضاء حاجيات المبرمجين الخياليين وإنما للبحث لها عن أجوبة يطمئن لها القلب ويرضى بها العقل؟.
شيئا فشيئا تلاشت ملامح المشروع الأول ولم يبق منه إلا بعض الآثار حافظت عليها في هذه الطبعة لمجرّد الذكرى وحتى التندّر.
هكذا من مشروع رواية خيال علمي تحوّل النص تدريجيا إلى رحلة داخل الذات تستجمع كل ما تراكم داخل الذاكرة من أحداث ومشاعر وأفكار بحثا عن تصوّر يفنّد مقولة المسعدي الرهيبة عن الحياة وأنها: ”عبث شرّ ما فيها أنها تجهل أنها عبث ”.
هل النصّ إذن سيرة ذاتية؟
من أين لي أن أنكر أن أغلب المعطيات فيه مستمدة من تجربتي الشخصية حتى ولو غرفت من الكم الهائل من القصص التي عايشتها عن كثب لبناء شخصيات الطفل والأب والأم والحبيبة والصديق والعدو بحثا عن الثابت والأزلي في أدوار قارة تتتابع عليها الأجيال.
لكن للسيرة الذاتية قواعدها ومنها -كما فعل ميخائيل نعيمة في كتابه سبعون-السرد وفق الترتيب الزمني لأحداث موثّقة يريد الكاتب عبرها تقديم أجمل الصور عن مساره.
قد يضمّن كاتب السيرة الذاتية نصه بعض العبر لكن الطاغي هو سرد الأحداث وهي أغلب الوقت محلّ اهتمام القارئ، خاصة إذا كان المؤلف شخصية مشهورة.
من هذا المنطلق يمكن القول إن النص ليس سيرة ذاتية لأن الأفكار فيه أهم من الأحداث ولأن سرد هذه الأخيرة لم يعبأ بالتسلسل الزمني ومزج باستمرار الماضي والحاضر والمستقبل.
هل النص رواية؟
طبعا لا، إذ لا تتوفر فيه أي من العناصر الكلاسيكية للرواية.
أخيرا وليس آخرا هو ليس أطروحة فلسفية تُحمل على محمل الجدّ لكثرة الاستشهاد بكبار المفكّرين وطول قائمة المراجع.
لنقل إنه نوع من التأمل في قصة الإنسان لفيلسوف عصامي تعلّم ومارس الفلسفة في جامعة الحياة واختار للتعامل مع أهم إشكالياتها الكتابة الأدبية لأن همها الصدق وليس الحقيقة ولأنها لا تضع الحدود الفاصلة والمصطنعة بين الواقع والخيال.
خاصية أخرى لهذا النصّ الذي لن يجد له مكانا في التصنيفات الأكاديمية: هو نص متواصل الكتابة منذ أكثر من عشرين سنة ولن يكفّ عن التغيّر إلا برحيل كاتبه.
لقد انطلقت كتابته سنة 1995 وكنت أغتنم كل الفرص بين اجتماعين، بين سفرتين، بين أزمتين سياسيتين للعودة إليه أحيانا إلى الرابعة صباحا ولا معين إلا القهوة وموسيقى باخ.
وفي سنة 2002 نشرت دار الأهالي الدمشقية أول طبعة ثم ثانية منقحة سنة 2010. بعد الثورة المباركة أمكنني نشر كتبي في تونس فصدرت سنة 2016 طبعة ثالثة مزيدة ومنقحة هي الأخرى.
وهذه هي الطبعة الرابعة للنص بتغييرات جذرية بعد أن وفرت لي مجددا تقلبات السياسة الوقت لما هو أثمن وأهمّ من صراعات عبثية ضيعت البوصلة والقيم.
لماذا حكم على النصّ أن يتطور باستمرار؟
لأن الرحلة بحث في أصعب سؤال: ما معنى أن تكون إنسانا؟.
وكما يعرف كل الباحثين في كل ميدان، لا نهاية للبحث إلا بنهاية حياة الباحث وبعدها يتسلم المشعل باحث آخر وهكذا إلى نهاية البحث بنهاية كل الباحثين أي نهاية كل الآدميين.
ثم أليس من الطبيعي أن تتغير الأفكار وأن تستبدل وأن تنضج في فترة زمنية امتدت أكثر من عشرين سنة؟.
لهذا سيتواصل التفكير والتغيير طالما بقيت قادرا على التفكير والكتابة والموضوع بئر بلا قاع.
كل أملي أن تجد عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، في هذا النص شيئا من رحلتك وقد أردت الكتاب في التفاصيل رحلة ذات وفي الثوابت رحلة كل ذات.
سوسة – باريس 30-8-2020″.
للتحميل مجانا على الموقع www.moncefmarzouki.com
http://www.moncefmarzouki.com/…/%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%ad%d…/