السّياسة لا تنبني على المجاملات والعواطف الذاتية بل على الحسابات العقلانية الباردة
تباينت الآراء من داخل حركة النهضة وخارجها بخصوص ترشيح نائب رئيس الحركة غبد الفتاح مورو للانتخابات الرئاسية، ليس لأن الرجل ليس في مستوى المهمة، ولكن لأنّ نسبة كبيرة من رجال النهضة كانوا يدعمون فكرة ترشيح شخصية من خارج الحركة، ومن بين هؤلاء وزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام.
لقد اعتبر رفيق عبد السلام أنّ ترشيح شخصية من داخل حركة النهضة بمثابة الخطأ الإستراتيجي نظرًا للأوضاع التونسية والإقليمية وحتى العالمية.
وكتب عبد السلام في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” تدوينة عبّر فيها من رؤيته لترشيح الشيخ عبد الفتاح مورو للانتخابات الرئاسية.
التوافق خيار إستراتيجي
التوافق خيار إستراتيجي يجب أن نحافظ عليه في السنوات القادمة ليس لأنه جيد من الناحية الأخلاقية بل لأنه مفيدٌ ومجدٍ من الناحية العملية.
الخيارات السياسية لا يجب أن تنبني على الرغبات والأمزجة، بل يجب أن تحسب بطريقة عقلانية باردة في إطار من التدرّج يبدأ بمصلحة البلد أولًا، ثم مصلحة الحزب ثانيًا.
المعطيات الموضوعية الصلبة تقول إننا نعيش في أوضاع دولية تتسم بصعود موجات يمين متحصّنة بنزعات قومية انكفائية، ولا تقيم وزنًا لقيم الحرية والديمقراطية في بلدانها قبل غيرها.
يضاف إلى ذلك تشكل محور إقليمي معادٍ في الصميم للربيع العربي والخيارات الديمقراطية، وقد بنى هذا المحور سرديته الكبرى على كارثية التغيير والديمقراطية، وشعاره في ذلك أما نحن أو الجحيم.
ولم يتردد هذا المحور في تخريب الوضع في سوريا واليمن وليبيا بعد أن صنع انقلاب العساكر في مصر، وهو لا يريد خيرًا بتونس اليوم أو غدًا.
محور إقليمي معادٍ للربيع العربيّ
هذه المعطيات ليست فزاعات من وحي الخيال أو ممارسة فن التخويف، بل هي حقائق ماثلة أمامنا، ومن لا يصدّق ذلك سيختبر قسوة هذه المعطيات على الأرض وتتوحّل أقدامه في متاهات لا نهاية لها.
الجرأة والشجاعة خصال مطلوبة في السياسة، كما أنّ العمل السياسي لا يخلو بطبعه من قدر محسوب من المجازفة، ولكن ثمة مسافة فاصلة بين المغامرة والتنطع وبين الإقدام والتوكل.
الجرأة والشجاعة هي أن تكبح جماح الرغبة في التموقع وشهوة السلطة وأن تتوقف حيث يتوجب التوقف.
طبعًا، المعطيات السياسية ليست ثابتة ونهائية، بل هي متغيرة، وقوي اليوم ربما يكون ضعيف الغد والعكس صحيح، وتقديري أنّ تيار التغيير يربح بالنقاط ويتقدم في أكثر من موقع رغم شراسة المحور المضادّ وامتلائه بالأحقاد والرغبة في الانتقام. والعاقل من يحسب خطواته بعقلانية وشجاعة أيضًا.
أوضاع غير طبيعية
في الأوضاع الطبيعية تتقدم الأحزاب بمرشحيها لكل المواقع، في إطار منافسة مفتوحة ونزيهة، فمن أجل ذلك صنعت الأحزاب والهيئات السياسية أصلًا، ولكن يجب أن يدرك الجميع أننا إزاء أوضاع غير طبيعية، بما يجعل درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، وحماية مصالح البلاد متقدمة على الاعتبارات الظرفية التي تخص النهضويين.
الكثير من المقولات المتداولة من قبيل: لما نتقدم نحن للمواقع الأولى؟، وهل الآخرون أولى أو أقدر منا ونحن القوة السياسية الأولى في البلد؟، ولماذا نفرّط في حقوق طبيعية للحزب ومنظريه؟، كل هذه الأسئلة لم تختبر جدّيًا على أرض الواقع وتظلّ أقرب إلى الشهوات منها إلى معطيات التحليل.
كثيرًا ما نتحدث عن الاستثناء التونسي بشيء من الفخر المبالغ فيه أحيانًا، ولكن الاستثناء يعني في نهاية المطاف أننا نجدف ضد التيار الغالب في المحيط، وكأنّ ما بجري في تونس ضرب من تحدّي الجغرافيا السياسية. وعليه، المطلوب منا جميعًا الترفق بأوضاع بلدنا وأحوالنا من غير تعسف أو تنطع.
تقديم مرشّح نهضاوي مرهق لتونس وتجربتها الديمقراطية
ما تحتاجه تونس في المرحلة القادمة هو مرشح توافقيّ غير معادٍ لتوجهات الثورة ومتشبع بالخيار الديمقراطي المدني، كما أنني مقتنع أنّ تقديم مرشّح نهضاوي مرهق لتونس وتجربتها الديمقراطية، ومنهك للحزب وآفاقه المستقبلية.
كنت ومازلت مقتنعًا بهذا الرأي، وقد صدحت به جهرًا وبقوّة حينما طرح خيار تقدم الأستاذ راشد الغنوشي لهذا الموقع، لأنّ السياسة لا تنبني على المجاملات والعواطف الذاتية، بل على الحسابات العقلانية الباردة.
التوافق خيار إستراتيجي يجب أن نحافظ عليه في السنوات القادمة ليس لأنه جيّد من الناحية الأخلاقية، بل لأنه مفيدٌ ومجدٍ من الناحية العملية، فبفضله تمكنا من حماية التجربة التونسية من شرور الفتن والفوضى وأوصدنا كثيرًا من أبواب الشر.
قد لا بكون هذا الخيار مثاليًا ولكنه يظل في نهاية المطاف الأقل سوءًا لنا ولغيرنا.
والله أعلم.