خواطرُ مُبدعٍ: حياتُنا بين “الرّهاشْ” و”قصر المُرّة”
المبدع دومًا، الأستاذ مصباح شنيب، يعود من جديد، بخاطرة جديدة، فيها الكثير من الإبداع والهامة والرجولة، حتى أنّ “الزمن الجميل” قال فيه بعد قراءة هذه التدوينة: “وأنا أتصفح المنشور قراءة وإعادة، طالعًا، نازلًا، يتبادر لي المشهد بالصورة، فأحبس أنفاسي، وتتدافع الأحاسيس إلى مقلة العين لتدفع دمعًا ينحدر على وجنتي، فينسكب في قارورة الوجدان فـأرشّ به دروبًا ينبعث منه عطر كأنّي أشتمّه الآن. أذكره فيزداد ألمي.
لله درّك أستاذي، أبدعت وأرجعت لي طفولتي التي كنت أبحث عنها”.
لن أزيد الكثير على ما قاله “الزمن الجميل”، لأترككم تتمتعون وتعيشون لحظات الطفولة الغائبة مع “زمن الإقامة”.
أواخر الصيف
يبدأ الرحيل أواخر الصيف من “الرّهَاشْ” (إحدى قرى ولاية تطاوين) بعد استكمال صابة التين استهلاكًا وتجفيفًا، وإتيان المواشي على بقايا الأعشاب اليابسة، وما تناثر من عقابيل الزرع صوب أراضينا الصالحة للحرث والواقعة غرب قصر المُـرَّة وهي غالبًا مرابعنا طيلة ثلاثة فصول، غير أنّ الأمطار قد تمسك عن التساقط ويكشف الخريف ـ وهو معيار خصوبة العام بأكمله ـ عن سنة زراعية بيضاء فيضطر أهلنا إلى الضّرب في الأرض بحثًا عن مرعى خصيبٍ لمواشينا وهي مصدر عيشنا ومناط أملنا للاستمرار على قيد الحياة.
سُويقٌ وزيتٌ وجرّةُ ماءٍ
لم يكن أمام أسرنا من حلّ بعد افتتاح مدرسة ابتدائية بقصر المُرّة إلّا أن يُعدّوا لنا سويقًا وزيتًا وجرّةً لسقي الماء من الآبار المجاورة، وأن يدعونا لحالنا في غرف القصر جنبًا إلى جنب مع مخزونات أخرى، مع توصيةٍ لحارس القصر بأن يرعانا في حدود الإمكان.
وفي هذه الغرف المكسوّة بملاطٍ من الجبس المحروق وفق طرقٍ تقليديةٍ علينا أن نتدبر أمرنا وأن نعيش كيفما اتفق وأن نُعدّ طعامنا المتكوّن من طبق واحد يتمّ إحضاره بسهولةٍ إذ نصبّ دقيق السُّويق في جفنة صغيرة ونخلطه بشيء من الماء ثم نسقيه بقليل من الزيت.
تلك هي وجبتنا كأيامنا لا تتغير في كامل ردهات النهار صباحًا وظهرًا ومساءً، بل على مدى العام الدراسي من أوله إلى آخره، عدا أيام العطل المدرسية التي نحنّ إليها كما تحنّ النوق إلى نجد شوقًا إلى وجبةٍ دافئةٍ.
حفل الزفاف والوجبة المطبوخة
يحدث أن نسمع بحفل زفافٍ في هذه الجهة أو تلك، فنتعاقد بأن نذهب إليه طمعًا في تدبّر وجبةٍ مطبوخةٍ. ومع انعطاف الشّمس إلى المغيب، تجدنا قد ركبنا إلى العرس الطريق حفاة. وبعد قطع بضعة كيلومترات نصل إلى مضارب خيام أهل العرس، ونختلط بأطفال آخرين منتظرين حتى يتمّ المضيفون إطعام ضيوفهم، ويتفرغوا لنا، ويهتف بنا رجلٌ ممسكٌ بعصًا غليظةٍ، ويتولى تقسيمنا إلى مجموعات صغيرة، ثم يقدم لنا قِصاعًا من الكسكسى خاليةً من اللحم، فهو في التقاليد القديمة ليس من نصيب الأطفال والنساء ولم نكن ـ في الحقيقةـ ننشد اللحم بقدر ما كنا نريد أن نظفر بكمّ من الطعام المطبوخ نسدّ به رمقنا.
وكان ذلك الرجل الواقف على رؤوسنا يترصد أيّ تجاوزٍ يصدر عن أيّ منا ليهويَ عليه بعصاه. لكن اللهفة على ازدراد أكثر ما يمكن من اللقم تحسّبًا من إتيان جموع الأطفال على ما في القصعة يثنيهم عن الشغب الصبياني المعهود.
معلّم ذلك الزمان
بعد العشاء نتنادى لنسلك طريق العودة نمشي حينًا ونعدو حينًا آخر على كثبان الرمال، ونتهارش كالسّباع ولا يدور ببالنا أن الزّواحف والعقارب المنتشرة في كل مكان قد تلدغنا، وكأنها لأننا لا نفكر فيها تتناسانا بدورها.
وما إن ندرك القصر حتى تبتلعنا تلك الغرف المظلمة ونسلّم أجسادنا إلى نوم عميق لا نفيق معه إلا صباحًا حيث نعدّ العدّة للذهاب إلى المدرسة والخوف يساورنا من محاسبة معلّمينا، فمن يدري لعلّهم علموا بسفرنا إلى دار العرس، ومعلّم ذلك الزمان مسؤول عن التلميذ في القسم وخارجه، والتلميذ يدرك ضمنًا أنّ المعلم هو وليّه في كل الأحوال، ومن حقّه أن يحاسبه عن كل كبيرة وصغيرة. “يتبـع”