ذكرى انتفاضة الخبز وتداعياتها على تونس (جانفي 1984)
تمرّ اليوم 35 سنة على انتفاضة الخبز التي اشتعلت من مدينة دوز بولاية قبلي، جنوب غربي تونس، بسبب الترفيع في ثمن الخبز، ومرت الانتفاضة بسرعة إلى مختلف المدن التونسية فتدخل الأمن التونسي لإيقاف الانتفاضة وسقط جراء ذلك عشرات الشهداء.
وكتب أستاذ التاريخ في الجامعة التونسية الدكتور محمد ضيف الله عن هذه الانتفاضة تدوينة في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، تحت عنوان “شهداء أحداث الخبز”، جاء فيها: ”
تعتبر انتفاضة الخبز أحد أهم الأحداث التي عرفتها بلادنا خلال تاريخها المعاصر. ومن أهم الوثائق التي يمكن اعتمادها لإلقاء الأضواء عليها التقرير الذي أعدته اللجنة التي شكلتها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وشاركت فيها بعض جمعيات المجتمع المدني الأخرى من عمادة المحامين وجمعية المحامين الشبان واتحاد الشغل واتحاد الكتاب وعمادة الأطباء وجمعية الصحافيين”.
زلزال هزّ بناء المجتمع التونسي
وأضاف د.محمد ضيف الله: “في مقدمة التقرير اعتبرت اللجنة أن ما حدث “أشبه بالزلزال الذي هزّ بناء المجتمع التونسي الهش بكل أسسه وطوابقه”. واستعرض التقرير في قسم أول المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفي القسم الثاني أورد تسلسل الأحداث من 29 ديسمبر 1983 بانطلاقتها من دوز (قبلي) وصولًا إلى العاصمة في 3 جانفي 1984، وإعلان حالة الطوارئ ثم ما وقع من أحداث يومي 4 و5 جانفي 1984.
وفي الخاتمة وردت إحصائيات لعدد الشهداء الذين بلغوا 92 شهيدا. علمًا وأن الجهات الرسمية أكدت على أنها عدد الشهداء يبلغ 70 فقط، في حين أن مجلة “جون أفريك” أوردت اعتمادا على مصادرها الخاصة إحصائية تصل إلى143 شهيدًا.
يتضمن تقرير اللجنة توزيعَا للشهداء حسب أماكن استشهادهم كما يلي: تونس العاصمة 29، صفاقس: 11، الكاف: 10، المتلوي: 6، قابس: 6، القصرين: 6، مدنين: 5، المنستير: 4، جندوبة: 3، قبلي: 2، توزر: 2، قفصة: 2، القيروان: 2، قصيبة المديوني: 1، باجة: 1، طبربة: 1، سيدي بوزيد: 1.
أغلب أولئك الشهداء سقطوا بالرصاص. وقد لاحظت اللجنة في هذا الإطار بأن “إطلاق الرصاص من طرف رجال الأمن على المتظاهرين العزّل والتسرع في استعماله كان في الإمكان تفاديه في أغلب الأحيان” وهو ما يعني أن الذين أطلقوا الرصاص كانوا يشعرون بالحماية من سلطة عليا.
أسماء شهداء انتفاضة الخبز
ومن أسماء الشهداء الواردة في التقرير: أنور وجدي ماجدي؛ بوبكر المولدي الرزقي؛ جلال أحمد الرايسي؛ جمال العموري؛ جمال المهيري؛ جمال عمار؛ حبيبة مفتاح؛ حميد حريز الطاهري (تلميذ)؛ حميدة بن رجب الشماخي؛ زهير مصطفى الشيهاوي؛ سامي خليفة حسني (14 سنة)؛ سامي غربال؛ سليم محمد الورفلي؛ سمير القلال (حذّاء)؛ شاكر المبروك؛ عادل الخالدي (11 سنة)؛ عادل بن خميس عمار؛ عبد الحميد بن خليفة المناعي؛ عبد السلام محمد المازني؛ عبد القادر الكوني (تلميذ)؛ عبد الكريم عبد الكبير الكبيري (عمره 12)؛ عمر الذهبي؛ فاضل بن صالح ساسي؛ فتحي بن محمد بن حسين عطية؛ فتحي بوكثير الشتوري؛ فتحي فلاح؛ فخر الدين بن شهيدة (تلميذ)؛ فوزي السعيدي؛ فوزي بن محمد السلامي؛ كريم القبلوشي؛ كمال بن بلقاسم السباعي؛ لطفي الطرابلسي؛ محسن الدريدي؛ محسن عمارة صدوقة؛ محمد الزين بلقاسم العسيلي؛ محمد العجيمي المثلوثي (13 سنة)؛ محمد النفزي (تلميذ)؛ محمد النوري بوراوي؛ محمد بدر الدين الشايبي؛ محمد عبد القادر العبدي؛ محمد لسعد بن سليمان؛ محمود العروسي الشريف؛ منجية الكعبي؛ منذر عبد الكريم الطرابلسي (14 سنة)؛ منذر محمد الأزهر الخياطي؛ منير بن عثمان الحناشي؛ الهاشمي علي القابسي؛ هشام العياري.
وقد لاحظت اللجنة أنه “من الواجب فتح تحقيق عدلي لمعرفة ظروف مقتل كل ضحية وظروف إصابة كل جريح وتطبيق القانون عند الاقتضاء” إلا أن تلك الدعوة لم يتبعها أي اهتمام من السلطة”.
ماذا حدث يومها وما هي أسبابه؟
من جانبه، كتب الأستاذ علي اللافي تدوينة على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي، جاء فيها: ”
إنّ ما حدث في 3 جانفي 1984 في تونس لجدير جدارة تصل حدّ الواجب بأن تولي أقصى الاهتمام من كل ذي لبّ وطامح للتغيير وخاصة ممن عاش الحدث يومها وأدرك انتصار ثورة 14 جانفي 2011 المجيدة، فماذا حدث يومها وما هي أسبابه؟ وما هي النتائج ومواطن العبرة، وكيف كان ذلك مقدمة موضوعية للثورة الحالية والتي أجبرت الرئيس المخلوع على الفرار بعد أن أيقن بنهاية نظامه المتهاوي وحزبه الذي تحول الى قطعة قماش بالية؟.
+ الحدث:
منذ الإعلان في آخر سنة 1983 عن الثمن الجديد للخبز، انطلقت مجموعة من التحرّكات الشعبية في مناطق الجنوب التونسي (قبلي، الحامة، والقصرين وغيرها من مدن تونس وقراها العديدة…)، وكان إعلان السلطة يومها عن سقوط قتلى (120 تقريبا …) مُؤشّرا على ضخامة ما حدث، بل و تلاه تصعيد هائل في قوّتها وشمولها عمّ البلاد كلّها شمالا وجنوبا يوم الثلاثاء، فشهدت المدن الكبرى سيُولا بشرية جارفة اكتسحت في طريقها قوات القمع، حتى استنجدت السلطة البورقيبية بالجيش وأعطت أمرها بإطلاق النار وأعلنت حالة الطوارئ في آخر اليوم، ولكن الأحداث استمرت بحجم أقل دون أن تتوقّف، ممّا أجبر بورقيبة صباح يوم الجمعة 6 جانفي 1984، عن العودة عن القرار واعتبار الأمر كأن لم يكن….
+ الأسباب:
أ- يبدو أنّ السبب المباشر هو الزيادة الكبيرة في ثمن العجين والخبز بالذات وكأنّ هذه الزيادة أفاضت كأس الغضب الشعبي شعورا باستهانة النظام بأحوال الشعب المُتردّية.
ولقد وضع النظام البورقيبي الجماهير موضع الاختيار بين حلّين قد يؤدّيان إلى نفس النتيجة: إما الموت صمتا وجوعا وإما الموت في الساحة، ففضّلت الثاني رغبة في الثأر والتنفيس والموت العزيز.
ب- تفاقم أزمة البطالة ثمرة لاختيارات التبعية وتقلّص الاستثمارات الداخلية واضطرار كثير من المؤسّسات إلى غلق أبوابها، مع كل ذلك اتسعت الفوارق الاجتماعية بين المترفين (السلطة وحلفاؤها: وسطاء، صناعيين، إقطاعيين…الخ) وعالم المحرومين المتسارع النمو، حتى كاد ينعدم مفهوم المواطنة بين هذين العالمين…
ت- فقد الخطاب السياسي للسلطة مصداقيته بعد استرجاع شيء منها في بداية عهد محمد مزالي لظهوره بمظهر المجدد المنتقد للسياسة السابقة معتمدا على قدراته البلاغية خاصة بعد الترضيات التي قدمها لبعض المعارضين.
بناءً على هذه الأسباب وغيرها فإنّ حدث 3 جانفي 1984 هو محطة كبرى لا بد لكل راغب في فهم المجتمع التونسي يومها بل وحاليا من الوقوف عنده طويلا.
+ أي معاني الحدث اليوم؟
لقد عودنا النظام البورقيبي يومها، على السير في ممارساته اللاشعبية حتى إذا تورّط طفق يبحث عن “الأيدي الآثمة” والتي حرضت “الشعب” وهو الذي طالما تمادى في المغالطة والسفه عليه…
والمُلفت للنظر أيضا أن مئات الأرواح التي أزهقت يومها رفض النظام يومها أن يتحمّل مسؤوليتها وهو ما حدا بأحد زعماء المعارضة يومها أن يقول “إنّ ممتلكات الدنيا لا تعوّض نفسا واحدة، فمن الآمر بذلك؟ لا مناص من أن يحاسب…”.
ولكن أولئك الذين قتلوا يومها قنصا و نفذوا الأمر بالدقة المطلوبة ما كان لهم أن ينفذوا الأمر و لابد من أنهم ضحايا وثمرة من ثمار الفساد، غُرست سنة 1956 فأثمرت ذلك “الزقوم”، وقد أعاد آخرون مثلهم الكرة أثناء أحداث ثورة الكرامة في ديسمبر 2010 – جانفي 2011، وبالتالي فلابد من تربية وتعليم وثقافة تعيد كلها للإنسان اعتباره وبغير ذلك فلا حرية ولا ديمقراطية ولا تنمية ولا تطور.
و اليوم وبعد أكثر من ربع قرن على الحدث فإنّ تحرك الجماهير وفعلها الميداني يومها، مثل مرحلة متطورة من نضالات الشعب بشّرت بخير أتى فعلا بعد 28 سنة، وبرفض و إدانة لسياسات التبعية يومها، وإدانة للعبة الديمقراطية المكيفة التي أرادها النظام البورقيبي يومها وإدانة لخطاب فقد مصداقيته فسقط النظام في نوفمبر 1987 (أي بعد سنوات ثلاث) وسقط خلفه الرئيس المخلوع في ثورة كانت فيها انتفاضة 84 مقدمة موضوعية لها، مُعلنة يومها إدانتها لديمقراطية ليس لها من مضمون اجتماعي أو ثقافي عدا التمويه، بل وكانت انتفاضة جانفي 84 أيضا إدانة صريحة للتحالف الموضوعي بين النخبة السياسية والثقافية، ومن ناحية أخرى إدانة للواقع السياسي وللسلطة القائمة ومثلت في الأخير مرحلة متطوّرة من نضالات الشعب التونسي”.