الموتُ العاري وانهيارُ الأفكار: تأمُّلاتٌ في “ما بعد كورونا”
كتب الدكتور سالم العيادي، أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية مقالًا تحت عنوان “الموت العاري وانهيار الأفكار: تأملات في “ما بعد كورونا”، عن العالم ما بعد كورونا، وعن “الوضعية القصوى” التي تعيشها البشرية جمعاء.
أشار الأستاذ العيادي إلى “انسحاب كلِّ “الدجّالين” ممَّن صار يُسمَّى في ساحات الإعلام وصناعة الرَّأي العام بـ “الخبراء” ذوي “المعرفة المحايدة””، لأنّ “زمة الكورونا هو زمن “المعرفة المنحازة” للمعنى والحياة”.
وعبّر العيادي عن خشيته من استمرار هذا الزَّمن الوبائيِّ لمدَّةٍ طويلةٍ قد يتحوَّل معها الصّراعُ إلى ثورةِ البؤساء الفقراء المعدمين.
وهو يتّهم الإنسانية بالوقوف وراء الوباء، فيقول إنّ: “الإنسانيَّة قد وجدت في مسرد أفكارها ما يبرِّر “القتل” ويسوِّغه، واقترفت تحت عناوين أخلاقيَّة ودينيَّة وإيديولوجيَّة حروبًا كان عدد ضحاياها وحجم الهول الّذي خلّفته أعظم بكثير من ضحايا الزّمن الوبائيّ والهول النَّاجم عنه
وأكد على أنّ أخلاقية الإنسان المنافقة ستنهار، وستنهار معها كلَّ الأفكار الّتي شُيِّدت عليها تلك “الأخلاقيَّة” المزيَّفة:”.. فحياةُ النَّوعِ البشريِّ لن تقف والرّوابط الاجتماعيَّة والتَّواصليَّة لن تنهار. وإنَّما الأمرُ الذي سيتوقَّف نهائيًّا هو “أخلاقيَّةُ” الإنسان “المنافِقة” وستنهار كلُّ الأفكار الّتي شُيِّدت عليها تلك “الأخلاقيَّة” المزيَّفة”.
وهذا مقال الأستاذ سالم العيادي كاملًا:
الموت العاري وانهيار الأفكار: تأمُّلات في “ما- بعد -كورونا”
الدكتور سالم العيادي
يقع المتابعُ لزمن “كورونا” على أمرٍ ذي دلالةٍ فارِقةٍ: الأطبَّاء هم الآن في خطِّ المواجهة الأولى عالميًّا من ناحيةٍ أولى، والفلاسفة هم الآن خطُّ الدِّفاع المتقدِّم السَّاعي بكلِّ جهده إلى نقل كورونا إلى عالم الفكر والسُّؤال من ناحية ثانية. ولا عجب في ذلك: فإنَّ ما تعيشه البشريَّةُ اليوم هو بمثابة “الوضعيَّة القصوى” الّتي يلتحم فيها الفكريُّ بالحيويِّ والّتي توجب على الحياةِ ذاتها استنفار الفكر من جهة كونه “مجهودًا” يبذله الكائن لأجل الاستمرار في الحياة واستكمال الوجود.
فهدفُ الطبِّ من حيث هو علمٌ وصناعةٌ يتمثَّل في إعادة الصحَّة لجسمٍ فقدها. وهدف الفلسفة من حيث هي حكمة نظريَّة وعمليَّة يتمثَّل في إعادة الصحَّة لروحٍ فقدتها. وهذا ما يفسِّر انسحاب كلِّ “الدجّالين” ممَّن صار يُسمَّى في ساحات الإعلام وصناعة الرَّأي العام بـ “الخبراء” ذوي “المعرفة المحايدة”. زمنُ الكورونا هو زمنُ “المعرفة المنحازة” للمعنى وللحياة. وأيُّ انحيازٍ أعلى من نُصرةِ “الصحَّة” من حيث هي سلامة الجسم طبيًّا والرّوحُ فلسفيًّا؟.
الشُّعور العالميَّ بوحدة المصير
ما يعنيني في هذا المقام هو أمرُ الرّوح فكرًا وسؤالاً وانعتاقًا نقديًّا وهمًّا تأسيسيًّا لا يلين. ومن زاوية النَّظر هذه أصوغ هذا الاستفهام: ما الّذي جعل البشريَّة قاطبةً تستنفر كلَّ إمكاناتها في مواجهة “كورونا”؟ وما الّذي يغذِّي اليومَ الشُّعور العالميَّ بوحدة المصير فيما وراء كلّ التقسيمات والحدود الفاصلة؟ كيف صار “غلقُ الحدود” دالاًّ على ضربٍ من التوحُّد الكوكبيِّ؟.
وحدةُ العدوِّ عالميًّا، والخوف من موتٍ معمَّمٍ قد يأتي على النَّوع البشريِّ من حيث هو شكلٌ من أشكال الحياة في دلالتها البيولوجيَّة المباشرة (بعيدًا عن صلفِ الثقافات والحضارة والعقائد والسياسات)، والقلقُ الناجم عن إمكانيَّة تعطُّل “الحياة الاجتماعيَّة” وكلّ أشكال التلاقي والتواصل، والخشيةُ من استمرار هذا الزَّمن الوبائيِّ لمدَّة طويلة قد يتحوَّل معها الصّراعُ إلى ثورةِ البؤساء الفقراء المعدمين،… كلّ هذه المعطيات وغيرُها قد يُفسِّر وضعنا اليوم.
“أخلاقيَّةُ” الإنسان “المنافِقة” ستنهار
ولكنَّ الأمرَ في تقديري أكثرُ تعقيدًا ممَّا نتصوَّر، وقد يكون أكثر هولاً ممَّا نظنُّ: فحياةُ النَّوعِ البشريِّ لن تقف والرّوابط الاجتماعيَّة والتَّواصليَّة لن تنهار. وإنَّما الأمرُ الذي سيتوقَّف نهائيًّا هو “أخلاقيَّةُ” الإنسان “المنافِقة” وستنهار كلُّ الأفكار الّتي شُيِّدت عليها تلك “الأخلاقيَّة” المزيَّفة.
الموتُ العاري (استلهامًا من مفهوم الحياة العارية للفيلسوف الإيطالي أقمبن) هو الحدث الفارق في هذا الزمن الوبائيّ. وأقصد بالموت العاري الموتَ الّذي لا يقدر أحد على تبريره أو تسويغه حتَّى يصير معقولاً ومقبولاً. وهو أمرٌ مستجدٌّ ولا علاقة له بالموت الّذي يمكن للإنسان أن يجد في عالم الأفكار ما يجعلُه – بضربٍ من الأخلاقيَّة المزيَّفة – “خيرًا” يباشره “العظماءُ” من المحاربين مثلا، أو يأتيه “المجانين” عبثًا.
انهيار “أفكار” و”أخلاقية” التاريخ البشريّ
فالإنسانيَّة قد وجدت في مسرد أفكارها ما يبرِّر “القتل” ويسوِّغه، واقترفت تحت عناوين أخلاقيَّة ودينيَّة وإيديولوجيَّة حروبًا كان عدد ضحاياها وحجم الهول الّذي خلّفته أعظم بكثير من ضحايا الزّمن الوبائيّ والهول النَّاجم عنه. فــ “حروب الربِّ” و”الحروب العادلة” و”دمقرطةُ الشَّرق” و”مواجهة الإرهاب” مثلاً … وغيرها من المسوّغات كانت باستمرار بمثابة “سرديَّةٍ” تضفي على القتل “معنى أخلاقيًّا” وترفعه بحكم ذلك إلى مقام “الواجب”.
والإنسانيَّة في الزَّمن الوبائيّ المعولم لا تسعفها الأفكار المبرِّرة للشرِّ والألم والموت مهما كانت طبيعة هذه الأفكار ومصادرها: فهذا الوباء يهدِّد المؤمن وغير المؤمن، والغنيّ والفقير، ويهدِّد كلّ الديمغرافيَّات والاقتصاديَّات، وهو قد أحرج الجميع وأربكهم “المتقدِّمين” قبل “المتخلِّفين”، وهو علاوة على ذلك ينبئ بانهيار كلِّ الدُّول القويَّة منها قبل الضّعيفة… هو إذن وباختصار قد أسقط كلَّ الثنائيَّات الّتي منها استمدَّت عوالمُ الفكر التبريريِّ كلَّ “قذارتها الأخلاقيَّة”.
هذا الموت العاري الّذي لا يمكن تبريرُه فيُقبَل نكايةً بعدوٍّ مهما كان عنوان العداوة هو الحدثُ الذي سيؤول إلى انهيار “الأفكار” و”الأخلاقية” الّتي حكمت التاريخ البشريّ إلى اليوم.
الموت العاري وانهيار الأفكار
فالهلع الكونيُّ اليوم مردُّه إلى ما تُمنِّي الإنسانيَّةُ نفسَها به: أن تجد في مسرد أفكارها وسرديَّاتها ما يجعل الموت الوبائيَّ “مشروعًا” ومقبولاً “نظريًّا” و”عمليًّا”. وحصنُ البشريَّة ضدّ تلك “الأمنية الخبيثة” هو اليوم حصنُ الطبِّ والفلسفة.
والسُّؤال الطبيُّ-الفلسفيُّ الرَّاهن والملحُّ هو: فيمَ تكمن صحَّة الإنسان؟ وما هي شروط الحفاظ عليها في عالميْ البيوس (Bios) والإيتوس (Ethos)؟.
الفيروس يفكِّر خارج الثنائيَّات الفكريَّة البشريَّة. والفيروس يُميتُ فيما وراء الخير والشرّ البشريَّين. وملامح الزّمن “ما – بعد – كورونا” هي على نحوٍ مزدوج: الموت العاري وانهيار الأفكار.
مصير البشرية: إلى أين؟
فإلى ماذا سيقود هذا الزَّمنُ البشريَّةَ؟ إلى أيِّ مصيرٍ يقودها؟.
هذا السُّؤال هو سؤال الطبِّ والفلسفة بامتيازٍ. وقد تحتاج البشريَّة مستقبلاً لتلك الصُّورة التَّوليفيَّة العجيبة لطبيبٍ فيلسوفٍ أو لفيلسوف طبيب. ولكن لا لأجل البلاط وأهل البلاط وإنَّما لأجل المعمورة وأهلها أجمعين. تلك هي “المعمورة الفاضلة” الّتي قد تولَد من رحم هذه الأزمة إذا أمكن لها التلقُّف الانعتاقيّ للانهيار المدويّ لعالم “الأفكار الفاسدة”.