أخبار العالمأخبار عربية

الفساد والمحسوبية يُهدّدان التجربة الديمقراطية التونسية برُمّتها

أشار التقرير الذي نشره مركز كرنيغي للشرق الأوسط، التابع لمؤسسة كرنيغي للسلام، إلى الخطوات التي مرت بها التجربة التونسية منذ ثورة الحرية والكرامة 2011.

وشدّد التقرير على أنّ الوضع الذي تعيشه تونس، سببه “استشراء الفساد والمحسوبيات على نطاق واسع في البلاد بات يهدد التجربة الديمقراطية التونسية برمّتها”.

وحذّر التقرير الذي يحمل عنوان “جغرافية الغضب في تونس: التفاوتات الجهوية وصعود الشعبوية” من انفجارات اجتماعية في المستقبل، وهو ما يستدعي “تسويات حقيقية لتسهيل تقاسم الثروة” وتحصيل “ضرائب أكثر من الجماعات (الفئات) الاجتماعية المُتمتعة بالامتيازات”.

ودعا التقرير الذي نشر يوم 03 مارس 2020، وأعده الباحث التونسي حمزة المؤدب “النخب الحاكمة الجديدة” إلى “تبنّي خيارات اقتصادية صعبة وإحداث تغييرات بنيوية عميقة” و”تنفيذ إصلاحات زراعية حقيقية يمكنها أن تُطلق قوى الإنتاج من عقالها في المناطق الداخلية”.

جغرافية الغضب في تونس: التفاوتات الجهوية وصعود الشعبوية

 

تُعتبر المناطق الداخلية التونسية بؤرة كبرى للاحتجاجات الشعبية. وقد يشكّل الشعبويون تهديداً أخطر على الديمقراطية التونسية الوليدة، ما لم يشهد اقتصاد البلاد عملية إعادة هيكلة عميقة.

كانت المناطق الداخلية التونسية بؤرة كبرى لمشاعر السخط التي أطاحت نظام الرئيس آنذاك زين العابدين بن علي في 2010-2011. وفي السنوات اللاحقة، يُواصل هذا الشطر المُهمّش من تونس لعب دوره كمغناطيس ومعقل للمُحتجين، الأمر الذي يفسر مدى جهوزية وقدرة التفاوت الجهوي في التنمية على إشعال قلاقل قد تغيّر وجه البلاد. والآن، لاتزال هذه المناطق المهمّشة هي المحطات الرئيسة للاحتجاجات الاجتماعية التي تنطلق منها التظاهرات ضد البطالة، ونقص الخدمات والتلوّث، والتي تطالب بتوفير الأرض والمياه.

معروف أنه حالما تنحّى بن علي، انفجرت الصراعات بين مختلف المجموعات المتنافسة على السلطة، ما حتّم الحاجة إلى عقد اجتماعي وطني جديد. وحين كان يصاغ دستور العام 2014، ابتدع الإسلاميون والعلمانيون، بما في ذلك ممثلون عن النظام السابق، توافقاً سياسياً لتسوية البنود الأساسية للخلافات بينهم حول طبيعة الدولة، وحرية المعتقد، وطبيعة النظام السياسي. كانت أربع منظمات مدنية حاسمة في لعب دور الوسيط بين مختلف اللاعبين، وهي: الاتحاد العام التونسي للشغل، واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، وعمادة المحامين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.

هذا التوافق السياسي أضحى الآن في خَبَر كانَ. فقد فشلت الحكومات التونسية في حقبة ما بعد 2014 في معالجة المشاكل الاقتصادية والتفاوتات الجهوية العميقة والمُزمنة، ما أكد الانطباع بأن النخب السياسية الجديدة منفصلة عن المشاغل والهموم الاجتماعية والاقتصادية للناس. لا بل يعتقد المواطنون في الطبقتين الوسطى والفقيرة أن التسوية السياسية عزّزت الوضع الاجتماعي- الاقتصادي القائم، وفاقمت خيبة الأمل من الطبقة السياسية الجديدة، الأمر الذي أشعل إوار النزعة الشعبوية. وفي هذه الأثناء، لاتزال التفاوتات الاجتماعية- الاقتصادية القديمة معلقّة في الهواء بلا حلول.

إرث التفاوتات الجهوية

 

ليس صدفة أو أمراً مفاجئاً أن تكون المناطق الداخلية في البلاد هي البؤر الرئيسة للثورة. إذ أن سلسلة متّصلة من الحكومات كانت تُصر على الانحياز إلى مصالح المناطق الساحلية الأكثر حظوة، وتتجاهل المناطق الداخلية والحدودية. كان هذا نمطاً سائداً منذ حصول البلاد على استقلالها العام 1956، وتدعم خصوصاً منذ السبعينيات في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، حين ركّزت تونس على السياحة والصناعة منخفضة الكلفة لتعزيز نموها الاقتصادي، وهي المقاربة التي أبقت جُل استثمارات البنى التحتية منصبّة في المناطق الساحلية، بدلاً من حفز النمو في المناطق الداخلية التي يقوم اقتصادها على الزراعة أساساً. هذا البون الشاسع وعدم التكافؤ في عملية التمكين الاقتصادي، حولّا المناطق القصية في تونس في نهاية المطاف إلى مجرد مصدر لليد العاملة غير المُكلفة، والسلع الزراعية، والمواد الأولية التي تستغلها المناطق الساحلية. هذا علاوة على أن الآفاق الاقتصادية الغثّة للمناطق الداخلية، نثرت بذور نظام يقوم على الزبائنية التي ازدهرت في عهد بورقيبة في أوساط النُخب المحلية وأجهزة الأمن.

هذا النمط من التهميش تفاقم في عهد بن علي الذي تولّى مقاليد السلطة العام 1987. فنظامه اتّخذ قرارات سياسية واستثمارية رصفت الثروة بشكل أكبر وفق خطوط جغرافية، حيث تم رصد ثلثي الاستثمارات العامة للمناطق الساحلية. وكما الأمر في عهد بورقيبة، كانت الشبكات الزبائنية وازنة في عهد بن علي وهيمنت على المداخل إلى فرص العمل في الشركات المملوكة للدولة في المناطق الداخلية، مثل شركة فسفاط قفصة أو المجمع الكيميائي في قابس. كما أحكمت الأجهزة الأمنية وقوات الشرطة ومسؤولي الجمارك، قبضتهم على الاقتصاد الحدودي، فوزعوا الوظائف، والمساعدات العامة، ورخص الشركات، وريع الحدود، وفق حسابات تأخذ في الاعتبار أهمية الحفاظ على توازن دقيق في الجغرافيا الداخلية. بيد أن الزبائنية صعّدت أيضاً التنافس في المناطق الداخلية بين الشبكات القَبَلية، ما أوقد نيران المزيد من المنافسات بين المجموعات الاجتماعية للحصول على المناصب والمنافع.

تقاطع هذا الغبن الاقتصادي مع التهميش السياسي، حيث أدّت المركزية الحادة في صنع القرار إلى اقصاء المناطق الداخلية. ثم ان الغياب شبه الكامل للقطاع الخاص، منع بروز نخبة اقتصادية قادرة على الصدح بمطالب الأطراف. إضافة إلى ذلك، فاقمت الهجرة الداخلية للسكان من ذوي الكفاءة إلى الساحل من تهميش الجهات الحدودية والداخلية. وهذا أضعف أكثر قدرة الأطراف في التأثير في صياغة السياسات الوطنية.

اليوم، تحتوي الولايات الداخلية على 50 في المئة من النفط والغاز والموارد المائية في البلاد، و70 في المئة من إنتاج القمح، و50 في المئة من زيت الزيتون والفاكهة. بيد أن هذه المناطق محرومة. وفقاً لبيانات البنك الدولي العام 2014، يتركّز 85 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وأكثر من نصف سكان تونس قرب ثلاث مدن هي الأكثر اكتظاظاً بالسكان- تونس العاصمة، وصفاقس وسوسة -، وكذا الأمر بالنسبة إلى المقرات العامة لنحو 90 في المئة من الشركات العاملة في القطاع الصناعي، إذ لا تتواجد في المناطق الداخلية من البلاد سوى عُشر الشركات الأجنبية العاملة في تونس. حين ننطلق من حقائق هذه التفاوتات الاقتصادية، لن نستغرب حينذاك تفشي الفقر أكثر بكثير في المناطق القصية من باقي الجهات. ويوضح البنك الدولي أنه عشية خسارة بن علي السلطة، كان 32.3 في المئة من المواطنين في المناطق الوسطى الغربية من تونس، و21.5 في المئة في المناطق الجنوبية الغربية، و25.7 في المئة في المناطق الشمالية الغربية، يعيشون في حالة الفقر، فيما 9.1 في المئة فقط من سكان تونس العاصمة و8 في المئة في الجهات الوسطى الشرقية من البلاد فقراء. وفي العام 2015، كانت معدلات الفقر في بعض المجتمعات المحلية، خاصة في الجهات الوسطى الغربية ضعفي المعدل في البلاد ككل. وفي 2015 أيضاً، كان المعدل الوسطي الوطني للفقر هو 15.2 في المئة، فيما كانت المعدلات في الكاف (الشمال الغربي) والقصرين (الغرب الأوسط) وباجة (الشمال الغربي) 34.2 و32.8 و32.0 في المئة على التوالي. وفي هذه الأثناء، وفي مناطق مثل تطاوين وجندوبة والقصرين، كانت البطالة ضعفي المعدل الوطني. وهكذا، من بورقيبة إلى بن علي وصولاً إلى الآن، لم تكن المناطق الداخلية والحدودية مُعتبرة أساسية للاقتصاد؛ وهو خيار جعل الكلفة الإنسانية باهظة.

آمال محطمة بعد انتفاضة 2011

 

حين وعدت نهاية عهد بن علي بانطلاقة مرحلة جديدة، عقد التونسيون، الذين لطالما تعرّضوا إلى التهميش، آمالهم على الدولة المركزية للعمل بجد على تحسين مستوى معيشتهم ووضع حد لحالة عدم المساواة. لكن، وبدلاً من ذلك، حبّذ المسؤولون الحكوميون عن قصر نظر، ومراراً وتكراراً، برامج التوظيف قصيرة الأمد، وكبيرة الحجم، والمستندة إلى الدفع نقداً، على غرار برنامج الحظائر Les Chantiersوقد جرى توظيف ضعف العمال غير المهرة في مثل هذه البرامج في العام 2011 بالمقارنة مع العام 2010. ومما له دلالة هنا أن 77 في المئة من إجمالي العمال في تونس في هذا البرنامج تحدّروا من الأجزاء الداخلية من البلاد، في الوقت نفسه الذي كان يُفتح فيه باب الالتحاق ببرامج التشغيل الواسعة على مصراعيه أمام الفساد والمحسوبيات. على سبيل المثال، عمد الأعيان المحليون والبيروقراطيون النافذون إلى تحوير واختلاس الموارد المرصودة لهذه البرامج المؤقتة لخلق وظائف زائفة، أو إلى توزيع الوظائف على نحو غير عادل لمصلحة قواعدهم وشبكاتهم الشخصية. ولأن وظائف القطاع الخاص تميل إلى أن تكون شحيحة في هذه المناطق، تغدو الوظائف الحكومية بمثابة شريان الحياة بالنسبة إلى السكان المحليين.

يبدو أن النخب السياسية لمرحلة مابعد 2011 مالت إلى إعادة إنتاج التحالف الاجتماعي عينه الذي حافظ على نظامي بورقيبة وبن علي، على حساب سكان الجهات الداخلية، ما يكرّس إقصاء هذه المناطق حتى في إطار الزخرف الديمقراطي. لكن، في حين أن الفساد كان ممركزاً ومداراً بإحكام في نظام بن علي، إلا أنه انتشر وأعاق الاستثمارات التي تشتد الحاجة إليها في المناطق الداخلية، فيما كان مسؤولون بارزون يستخدمون سلطاتهم لتعليق مشاريع الاستثمار، والقروض المصرفية، أو الرخص، إلى أن يحصدوا الغنائم الشخصية. ومنذ سقوط نظام بن علي، بات العديد والعديد من التونسيين على قناعة بأن الفساد المستشري قد لوّث كل مراتب الاقتصاد وأجهزة الأمن والنظام السياسي في البلاد.

عكست التسوية السياسية لما بعد 2014 استعداد النخب التونسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية المترسخة لإعادة بناء التحالف القديم الذي كان سند الأنظمة السلطوية والذي حكم البلاد بدءاً من العام 1956. وقد عزّزت وضمنت التنازلات التي قدّمها ممثلو النظام القديم والإسلاميون منذ حوار 2013-2014 مشاركتهم المتبادلة في الديمقراطية التونسية. ومن خلال دورهم النشط في لم شمل الأحزاب والتوّسط بينها، أصبح الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، اللاعبين المركزيين في التسوية السياسية لما بعد 2014. هذه التطورات منحتهم حق النقض (الفيتو) على القرارات الاجتماعية- الاقتصادية التي قد تكون لغير صالح قواعدهم. معروف أن اتحاد الأعمال يهتم أساساً بمصالح هؤلاء، فيما الاتحاد العام التونسي للشغل يعطي الأولوية للمزايا الاجتماعية التي تحصل عليها الطبقات الوسطى المُعتمدة على الدولة- أي الأشخاص العاملون في القطاع العام- على حساب العاطلين عن العمل، والمناطق المهمّشة، والسكان غير المُنتمين إلى نقابات والناشطين في الاقتصاد غير الرسمي.

لقد فشل حزب النهضة، على رغم تأكيده على أهمية الإصلاح الاقتصادي- الاجتماعي، في استخدام موقعه في السلطة السياسية لتحقيق تغيير يُعتد به، حين أوصله المواطنون إلى مواقع الحكم. وعلى الرغم من أن الحزب مارس نفوذاً على برلمان 2014، إلا أنه فشل في تشريع إصلاحات جبائية أو في الدفع نحو اصلاح زراعي و اعادة تقسيم الأراضي، إذ أثبت عجزه أو عدم استعداده لاستعداء أصحاب المصالح المتنفذين والنخب الاقتصادية، أو جذب انتباه الرأي العام إلى فداحة عدم المساواة الاقتصادية والجهوية. بدلاً من ذلك، قلّل النهضة المجابهات وحاول اللعب على الحبلين. صحيح أن هذه المقاربة ضمنت دمج النهضة في الحياة السياسية وحمت الديمقراطية البازغة، بمعناها الأوّلي، إلا أن التوافق السياسي بين الإسلاميين الُممثلّين بالنهضة وبين النخب من النظام السابق مُجسّدة بحزب نداء تونس، كان له ثمن: فقد أدّت التسوية السياسية إلى وضع الإصلاحات الاجتماعية- الاقتصادية الملموسة والأساسية على الرف.

إن حزب النهضة، بتغليبه النفعية السياسية، سمح لأدوات النظام القديم بمواصلة نهب الدولة وإغناء نفسها. كذلك، أصبح الاتحاد العام التونسي للشغل أكثر تركيزاً على التفاوض لزيادة الرواتب والمزايا الاجتماعية لقواعده. وهكذا أشعل تحييد التغيير الاقتصادي- الاجتماعي السخط في صفوف المواطنين المُهمشين، والشبان المحرومين، وأضفى الصدقية على الرأي القائل إن كل السياسيين منسوجون من قماشة الجشع نفسها. ومثل هذه العودة المؤسفة إلى الأمر الواقع، أطلقت القوى الراديكالية والشعبوية من عقالها.

صعود الشعبوية

 

أدّت الوعود، التي دائماً ما كانت تتبخّر، حول التقدم الاقتصادي، إلى تجدّد الإحباط الشعبي والاحتجاجات في نهاية المطاف في صفوف الشبان التونسيين. ففي كانون الثاني/يناير 2016، اجتاحت مدينة القصرين موجة احتجاجات اتّسمت أحياناً بالعنف ضد البطالة والفساد. وما لبثت هذه المظاهرات أن تمدّدت إلى العديد من الولايات الأخرى. وفي العام 2015، سُجّل أكثر من 4416 حالة احتجاج اجتماعي، بما في ذلك التظاهرات، والاعتصامات، واحتلال الأراضي أو المباني الحكومية. اندلعت معظم هذه التطورات في المناطق الداخلية، وتضاعف عدد الاحتجاجات ليصل إلى 8713 في العام 2016، ثم ارتفع مجدداً في العام 2017 إلى 10452، قبل أن يتراجع قليلاً إلى 9356 في العام 2018 و9091 في العام 2019.

أماط انتشار حركات الاحتجاج في المناطق الداخلية (احتلال الأراضي، إغلاق الطرقات، الاعتصامات، ووقف إنتاج الفوسفات أو النفط) اللثام عن الكيفية التي يُمكن فيها لمشاكل التهميش البنيوية أن تترجم نفسها إلى ضغوط سياسية على السلطات المركزية في تونس العاصمة. فسكان هذه المناطق يُنددون على نحو مطّرد بالدولة التي حوّلتهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية، خاصة منهم اليافعين الذين أُغدِقَت عليهم وافر الوعود بمستقبل يحاكي مستوى معيشة الطبقة الوسطى. إلى ذلك، ثمة عوامل إضافية عملت على مفاقمة التوترات، منها تراجع الدولة عن وعد توفير الخدمات، ووتيرة الفقر المرتفعة، والمداخل الضئيلة إلى الوظائف، وغياب الآفاق الملموسة والحقيقية للتنمية.

في الانتخابات البلدية في ربيع 2018، صدح الناخبون بالامتعاض الواسع من الأحزاب السياسية، وبرامج التقشّف التي تطبقها الدولة، وحملات مكافحة الفساد الفاشلة. كان الإقبال على أقلام الاقتراع هزيلاً ولم يتجاوز نسبة الـ35 في المئة (بالمقارنة مع نحو 70 في المئة في الانتخابات التشريعية العام 2014). كما عكست الاختراقات المفاجئة للوائح المستقلين، الذين حصدوا معاً 32.9 في المئة من الأصوات وأعلى نسبة من المقاعد، السخط الوطني على المرشحين الحزبيين، ما وضع الطبقة السياسية على المحك بشكل خطر. بيد أن الآمال بتحقيق حوكمة محلية وشفافة أُحبطت مجدداً بفعل التحالفات الانتهازية والمُتقلبة، وكذلك بسبب المحاولات غير الفعّالة للمجالس البلدية لتلبية الحاجات الملحة للسكان.

خيبات الأمل البلدية هذه، مهّدت الطريق أمام العديد من المواطنين للإدلاء بأصواتهم ضد الأحزاب والنظام في الانتخابات الرئاسية والعامة في 2019. ففي الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة، أفادت هذه الأصوات الاحتجاجية كلاً من قيس سعيّد ونبيل القروي، اللذين حلاّ الأول والثاني على التوالي مع 18.4 في المئة و15.6 في المئة من الأصوات. سعيّد، الذي انتخب لاحقاً رئيساً في الجولة الثانية وحصد 72.7 في المئة من الأصوات، هو أستاذ قانون دستوري يبلغ الحادية والستين من العمر وليس له أي خبرة سياسية أو ارتباط حزبي، وهو خاض حملة انتخابية متواضعة للغاية لم تحظ سوى بموارد قليلة. ركّز برنامج سعيّد الانتخابي على مكافحة الفساد، والوقوف في وجه الأحزاب السياسية، وإضفاء النزعة الأخلاقية على الحياة السياسية، ولامركزية النظام السياسي. وقد لقي شعاره، “الشعب يريد”، صدى واسعاً لدى المواطنين، الذين باتوا مُقتنعين أن النخب السياسية الانتهازية تقوم بخطف الديمقراطية التونسية. ولاغرابة بعد ذلك أن يُحقّق سعيّد أفضل النتائج في أوساط الشبان الساخطين: 37 في المئة من اليافعين ما بين 18 إلى 25 سنة صوّتوا له.

على نحو مماثل، ادّعى القروي أنه يتحدّث إلى الفقراء، وعيّن نفسه سياسياً من خارج الطبقة والمؤسسة السياسيتين، على رغم أنه كان أحد الأعضاء المُؤسسين لحزب نداء تونس الذي قاده الرئيس السابق الباجي قايد السبسي. الأكثر إثارة هنا هو أن القروي حقّق أفضل النتائج في المناطق الشمالية الغربية الفقيرة، حيث ركّزت قناته التلفزيونية وجمعيته الخيرية على الناخبين الفقراء والأمّيين. وهكذا، تفوّق كلٌ من سعيّد والقروي بأشواط على ممثّل الحزب الإسلامي عبد الفتاح مورو وممثلَي النظام القديم يوسف الشاهد وعبد الكريم الزبيدي.

كشفت هذه الانتخابات عن ألوان متعددة من الشعبوية. ففي منطقة المناجم في قفصة، حلّ الصافي سعيد، وهو خطيب قومي عربي مفوّه، الأول مع 52 في المئة من الأصوات. وفي تطاوين في جنوب تونس، حلّ سيف الدين مخلوف، وهو محامٍ شاب وقائد ائتلاف الكرامة ومرشّح عن الجناح اليميني الراديكالي، في المرتبة الأولى ونال 24.16 في المئة من الأصوات. الشعبوية تمدّدت أيضاً إلى الانتخابات البرلمانية، حيث حلّ حزب القروي، قلب تونس، ثانياً مع 38 مقعداً من أصل 217، فيما وصل ائتلاف الكرامة، الذي يطرح برنامجاً راديكالياً، إلى المرتبة الرابعة مع 21 مقعدا.

الآن، إذا ما نحّينا جانباً مسارات مابعد 2011، سيتعيّن علينا أن نفهم الأصوات الاحتجاجية في العام 2019 في ضوء التاريخ الأطول لتونس في مجال التنمية. إذ أن حركات الاحتجاج الضخمة والرافضة للسياسات الحزبية، تعكس عجز النخب السياسية التونسية في حقبة مابعد 2011 عن معالجة التظلمات الجهوية الاجتماعية- الاقتصادية على نحو فعّال، أو حتى مجرد وضعها على رأس جدول الأعمال. والحال أن هذه النخب كانت أبعد ما تكون عن قلب الأنماط القديمة من الإخضاع الجهوي، وهي أعادت إنتاج الآليات نفسها، ومعها المبررات نفسها، للحكومات التي صاغت طبيعة علاقات المركز- الأطراف منذ استقلال تونس العام 1956.

خاتمة

 

التوافق السياسي الذي شقّ طريقه في العام 2014 خلق استقراراً مؤقّتاً في السياسات التونسية، لكنه وصل الآن إلى حدوده. فصعود الشعبوية والحركات الراديكالية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية العام 2019، ذكّر النخب السياسية والاقتصادية التونسية بأن البلاد تعاني الأمرّين من لامساواة اجتماعية- اقتصادية جهوية عميقة، وأيضاً من فساد ومحسوبيات تُهدّد التجربة الديمقراطية التونسية برمتها. وقد كان النهضة وممثلو النظام القديم براغماتيين بما فيه الكفاية للاتفاق على تقاسم السلطة. بيد أن تونس تحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك.

البلاد تتطلّب تسويات حقيقية لتسهيل تقاسم الثروة. والنخب الحاكمة الجديدة تحتاج إلى تبنّي خيارات اقتصادية صعبة وإحداث تغييرات بنيوية عميقة، مثل جباية ضرائب أكثر من الجماعات الاجتماعية المُتمتعة بالامتيازات، وتنفيذ إصلاحات زراعية حقيقية يمكنها أن تُطلق قوى الإنتاج من عقالها في المناطق الداخلية، وكذلك القطع مع اقتصاد الريع بهدف ضمان الموارد المالية والاقتصادية التي يجب أن توظّف في تطوير المناطق الداخلية في البلاد. علاوةً على ذلك، يجب على النخب الجديدة أن تبني تحالفاً اجتماعياً أكبر وأكثر شمولية للجميع، وهم أمر لا غنى عنه إذا ما أُريد إقامة نظام سياسي واقتصادي أكثر مشروعية.

وما لم يعالج قادة البلاد هذه التفاوتات العميقة، فإن السخط الشعبي من السياسات الحزبية سيتفاقم، ويتعمّق معه شعور الشعب بالظلم الاجتماعي. وإذا ما وقع هذا المحظور، يمكن أن يشكّل الشعبويون تهديداً ربما يكون أخطر على الديمقراطية التونسية الوليدة خلال المديين المتوسط والبعيد.

Views: 0

Midou

A professional journalist and blogger who has worked in several newspapers and websites

Related Articles

Leave a Reply

Back to top button