مطماطة: هوليود تونس التي تحوّلت إلى قبلة للسيّاح والمخرجين السينمائيين
بلغت شهرتها أرجاء المعمورة منذ اختيارها سنة 1970 من طرف المخرج الأمريكي جروح لوكاس لتصوير الفيلم العالمي”حرب النجوم”.. إنها مدينة مطماطة التي يطلق عليها “هوليود تونس”.. وهي كذلك “قرية تحت الأرض” نتيجة إصرار سكانها الأمازيغ على استغلال كهوف وغرف تحت الأرض للإقامة والتخزين.
قرية مطماطة، مطماطة القديمة، جنوب شرقي تونس، تبعد بنحو 450 كيلومترا عن العاصمة التونسية، هي قبلة للسيّاح من الداخل والخارج، يزورونها للاطلاع على كهوفها وغرفها المنحوتة على صخور الجبال، وطرق عيش الأمازيغ فيها وإصرارهم على المحافظة على عاداتهم وتقاليدهم بعيدًا عن المدنية والحداثة.
الطريق إلى “هوليود تونس” حيث الغرف المحفورة بين صخور الجبال، ملتوٍ في انحدارات خطيرة، ولكنها لا تخلو من جمال المناظر الطبيعية التي تحثّك على اكتشاف ما خفي في هذه القرية التي يقطنها الأمازيغ الذين خيّر أغلبهم المحافظة على غرفهم التي لا تحتاج إلى مكيّفات الهواء صيفًا، وآلات التسخين شتاءً، فهي تجمع بين الدفء والرطوبة في جميع الفصول.
أَثْوَبُ: أرض السعادة والهناء
مطماطة، يقول المؤرخون عنها إنها “أرض السعادة والهناء”، وهي كذلك “أَثْوَبْ”، وهو اسم لقبيلة أمازيغية قديمة، هربت خوفًا من قبائل بني هلال التي مرّت من هناك، فهاجرت إلى الجبال البعيدة، وحفرت كهوفًا وغرفًا في سلسلة جبال مطماطة، جعلت منها منازل تحتمي بها من بطش الهلاليين.
يقول الدليل السياحي محمد طاهر، والعامل بأحد النزل السياحية بمطماطة القدمية، لمجلة “برشة نيوز”إنهم يحفرون غرفًا بعمق 5 أمتار، وبسقف مقوّس، وهي تفتح منافذ على بعضها لتسهيل الاتصال وإمكانية الهروب في حالة هجوم من الخارج”.
هنا في قرية مطماطة القديمة، في هذه الغرف المحفورة تحت الأرض، هي عبارة عن مساكن عربية قديمة حيث يتوسّطها “الحوْش”، وهي عبارة عن فناء أو ساحة واسعة، بينما تظهر أبواب الغرف المتلاصقة، غرف قريبة، تخصّص للنوم، والطبخ، والجلوس أين يستقبل الضيوف. في وسط الحفرة، أو مدخل “الحوش” تشدّك بعض الرسوم، تظهر اعتقادات سكان الحفر من الأمازيغ، وهم السكان الأصليون، منها “السمكة”، و”اليد” (الخُمسة) لطرد العين والسحر، وتكتب في مدخل غرفة الجلوس “الله”، و”محمد”.
أشجار الزيتون
في فصل الصيف، مع حرارة الطقس، واصفرار الأعشاب، تتحوّل الهضاب المحيطة بالقريبة إلى قلاع جرداء، إلا من أشجار الزيتون التي تمثل أحد الموارد الاقتصادية لسكان هذه المناطق الجبلية، ولكن برغم صعوبة المناخ الصحراوي، فالأمازيغ، في مطماطة، والقرى القريبة مثل “تمزرط”، و”تاوجّوت”، و”بني زلطن”، و”هدّاج”، و”تشّين”، يصرّون على المحافظة على الإقامة في هذه الحفر والكهوف التي تجمع بين الغرابة والتعجّب.
الأمازيغ لم يقتصروا على حفر غرف في طابق سفلي، بل مرّوا إلى أكثر من ذلك من خلال استغلال طابق علويّ، أو الطابق الأول، الذي تحفر به غرف جديدة، تستغلّ لتخزين المؤونة، وتستعمل السلالم للوصول إليها.
تدخل هذه الغرف المحفورة في صخور الجبال، فترى جدرانًا بيضاء، وتجهيزات عصرية، ومفارش تزيّن الغرفة، مثل الزربيّة، و”المرقوم”، وهي مفارش تقليدية تنسجها المرأة في منزلها، وتبدع لها أشكالًا وألوانًا رائعة. ولأنّ هذه الحفر والغرف الجبلية هي جزء من تراث الأمازيغ، الذي جلب الشهرة إلى هذه المنطقة، فقد تمّ استغلالها سياحيًا، وتحويل هذه البيوت الجبلية إلى فنادق رائعة تجلب إليها السياح من داخل تونس وخارجها، اعتبارًا لطرافة التجرية بما فيها من إبداع وتشويق.
فيلم “حرب النجوم”
اشتهرت مطماطة التي يسكنها الأمازيغ وبلغ صداها أرجاء العالم بعد أن تمّ اختيارها من طرف المخرج الأمريكي جورج لوكاس سنة 1970 لتصوير الفيلم العالمي “حرب النجوم” في جزئه الأول، وظهرت تلك الغرف في قاعات السينما كأنها مشاهد من سطح القمر، من كوكب آخر. وذاع صيت هذه البيوت المحفورة التي كانت منزلًا لعائلة لارس سكاي والكر في سلسلة أجزاء “حرب النجوم”، وهو ليس سوى نزل سيدي إدريس بمطماطة.
هذه المشاهد العجيبة التي ظهرت في فيلم “حرب النجوم” جعلت عديد المخرجين العالميين يفكرون في استغلال جمال العمارة وخصوصية البيوت المحفورة تحت الأرض، والتي تتوفر في مطماطة التي حوّلتها إلى “هوليود تونس”، وبعد جورج لوكاس، اختارها المخرج الإيطالي غيدو كيازا لتصوير فيلم “مريم العذراء”، ثم المخرج الفرنسي جان جاك أنو لتصوير فيلم “العطش الأسود”. هذه الشهرة العالمية جعلت السياح يفدون من كل دول العالم على قرية مطماطة للاطلاع عن قرب على هذه البيوت المحفورة تحت الأرض، ولم يرفض سكان القرية دخول السياح إلى منازلهم لتصوير تفاصيل حياتهم والحديث معهم عن تراثهم وتقاليدهم والمحافظة على لغتهم الأمازيغية برغم اندماجهم الكلّي مع السكان العرب.
السّيّاح والبيوت المحفورة
السيّاح وهم يتنقلون في أنحاء القرية، يتجوّلون وهم لا يدركون وجود البيوت المحفورة، فهي عبارة عن حفر واسعة يصل عمقها إلى خمسة أمتار، لا شيء يدلّ على مكان هذه الحفر إلا لما تقترب منها، حتى أنهم يطلّون من فوق قبل أن يعرفوا الباب الرئيسي، ثم يطلبون من صاحب البيت الدخول، والتجوّل عبر الغرف، واحدة بعد أخرى، وأخذ الصور التذكارية، والسؤال عن طرق العيش، وسبب الإصرار على البقاء في هذه الحفر بعيدًا عن العيش في المدينة العصرية.
يقول نور الدين، أحد سكان البيوت المحفورة تحت الأرض لمجلة “برشة نيوز” : “اخترنا البقاء هنا في هذه الحفر ولم نعد قادرين على الذهاب بعيدًا، فنحن بذلك نحافظ على تراث وتقاليد أجدادنا الذين قضوا فيها سنوات عمرهم، ولا نرى جدوى من السكن في المدينة، فالعيش هنا له طعم آخر، البساطة بعيدًا عن صخب المدينة”، مضيفًا: “برغم حرارة الطقس في الخارج، صيفًا، وشدّة برودته شتاءً، إلّا أنّ كل شيء معتدل، وحرارة الغرف رطبة، ودافئة في جميع الفصول”.
وشدّد نور الدين على أنّ ارتفاع تكاليف البناء تعدّ كذلك من بين الأسباب الحقيقية التي تجعل الأمازيغ يصرّون على العيش في الغرف المحفورة تحت الأرض.
ويؤكد أنّ متساكني هذه المناطق يعتمدون على العمل الزراعي وتربية الماشية، وتشتهر النساء بصنع الزرابي و”البرانس” حيث يرتدي الأمازيغ “البرنس” في فصل الشتاء ليقيهم من برودة الطقس، مشيرًا إلى أنّ الأكلة الشعبية الأولى في تونس “الكسكسي”، هي أكلة ذات أصول أمازيغية.