خواطر مبدع: التغريبة إلى “افريقة “
كتب الأستاذ المبدع مصباح شنيب على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، خاطرة عنونها “التغريبة إلى افريقة”، يعود من خلالها بالقارئ إلى خمسينات وستينات القرن الماضي، لمّا كان الأجداد يعجزون عن توفير غذائهم، فلا يجدون بالتالي أمامهم غير المخاطرة وقطع مسافات طويلة، من الجنوب إلى الشمال التونسي، حيث الأمطار والحبوب، فيجمعون ما تقدر الإبل على حمله، ويعودون إلى مناطقهم، بعد تلك التغريبة الشاقة إلى افريقة..
حدثت جدتي قالت : أتى علينا حين من الدهر كابدنا فيه ضنك العيش فغدت أرضنا شهباء من المحل ويبست أغصان الزيتون وذوت كروم التين ونفقت المواشي من شدة الهزال ، وكنت ترى أرباب العائلات يجلسون مساء في ظل دورهم الواطئة في حال من الغم تنوء به الجبال الرواسي وترى الواحد منهم وقد لوحت رياح السموم وجهه مطأطئا رأسه ممسكا بعود يرسم به خطوطا مبهمة لا يتضح له تدبير مناسب في شأن أسرته التي يوشك أن يبطش بها الجوع.
قرار التغريب إلى “افريقة”
اجتمع الأقارب، وقلّبوا الأمر على كل وجوهه، فلم يجدوا بُدًّا من الرحيل إلى الشمال، وخوض تلك التغريبة الشاقة التي اكتوى بها الآباء والأجداد من قبلهم، فالأمر ليس هيّنًا، وانتقال عائلات بأكملها إلى عمق “افريقة” مضنٍ ومؤلمٍ، وفي رؤوسهم تثوي ذكريات مُدماة بالفاجعة، وموشومة بالمأساة عن أقارب لهم داهمهم الموت في ديار الغربة جرّاء ما أصيبوا به من “وخم” بسبب المياه غير النظيفة، والثمار غير المعالجة.
إنّ مجرّد الاستسلام لقرار الرحيل له في أنفسهم وقع المصاب الجلل، لكن بعض القرارات على سوئها قد تكون أرحم من المجاعة التي بدأ شبحها يطلّ برأسه من خلال مؤشرات لا ريب فيها..
غير أنّ جدّي المريض لم تكن حاله تسمح بالتنقل على ظهور الجمال إلى الشمال البعيد، وكان ذلك يسبّب لهم حرجًا كبيرًا، وينغّص عليهم رحلتهم التي تضافرت كل العوامل لتجعل منها قارب النجاة الوحيد لإنقاذ العائلة الموسعة من مصير محتوم.
أمل لا يغيب
وأرسى التفكير الطويل على تجميع ما بقي من القمح والشعير في قاع المطامير وجعله في عهدة عائلة جدّي، وهو في تقديرهم كاف لقوت عائلة صغيرة لمدة تغطي مساحة زمنية محترمة، وفي الحسبان أمل لا يغيب بأن الله سيرسل الغيث مدرارًا فينفرج الموقف، وتشرق شمس أخرى لم يروها منذ أمد بعيد لطول تحديقهم بأعينهم الكليلة في أفق ظلّ يسكنه الغبار ولا تعيره غيمة واحدة..
يوم رحلوا كان أشبه بالمأتم ،إذ لم يكونوا واثقين بأنّ الأقدار ستلاقي بينهم من جديد ، لكن التعلق بأهداب الحياة ضخّ في أنفسهم جرعات من الإرادة، وعزّاهم بصبر أيّوبي، وبادر الرجال بكسر حلقة الحزن التي كانت تخنق أنفاسهم، وساقوا الجمال لتنتظم في طف طويل وتحيط بها الحمير من الجانبين والكلاب تلهث من الخلف وظلت العائلة الصغيرة تتابع بعيون مخضلة بالدمع القافلة والأفق يبتلعها شيئًا فشيئًا، ولم ينقطع الراحلون عن الالتفات إلى منازلهم إلى أن تواروْا خلف الهضاب.
التغريبة إلى افريقة: الغيث الوفير وغياب الحزن المقيم
ابتلعت الأسرة المتبقية أحزانها وشربت ألمها علقمًا لا يستساغ وأنست لوحشتها تعد الأيام والليالي منتظرة أن يمن الله على مريضها بالشفاء..
ولم تمض إلا أشهر قليلة عن رحلة “النجع”، حتى هطل الغيث غزيرًا، فامتلأت المزارع بالماء، فاتسع نطاق الأمل، وامّحى من الوجوه حزن مقيم، واستخدمت الأسرة نصيبًا من مئونتها بذورًا محدثة نفسها بمحصول وفير.
غير أن خلو المكان من السكان كان يملأ الفضاء بالإحساس بالوحدة والخوف من نقص المئونة إذ لا تنسى الجدة الحكيمة أن تقيس الكمية المتبقية منها وأن تأخذ كل الاحتياطات لادخار أكبر قدر إلى حين قرب موسم الحصاد وكثيرا ما كانت تلجأ إلى طبخ بعض الأعشاب وخلطها مع الأكلات التقليدية خوفا من نفاد ذلك الاحتياطي الاستراتيجي الضامن للبقاء على قيد الحياة. .. وانعكس النقص في الوجبات اليومية على صحة أفراد العائلة وبدأ الوهن يسرى إلى أبدانهم النحيلة .. حتى بدأت حقول القمح والشعير تهب خيرها ” فريكا ” بما وفر مئونة طازجة وأخذت الأحوال تتحسن شيئا فشيئا مع اقتراب نضج القمح والشعير فسرت في الأجسام دماء جديدة ونشط الجميع لجمع الصّابة وتوفرت للمريض وجبات صالحة فانتعش قليلا لكنه ظل يعاني المرض لسبع متتاليات ثم شفي بعدها وعاش إلى أفق المائة لا يجرؤ داء على الاقتراب منه فكأنه صرف كلفة المرض دفعة واحدة.
وتجدّدت مواسم الأحزان
وتتحدث جدتي عن صيف لم ير الناس مثله بما أنتجته كروم التين من ثمار كانت تنقل على ظهر الحمار إلى حيث المشرحة التي كانت تعد من أغصان السّدر الشائكة وما إن قارب الصيف على الرحيل حتى وهبت أشجار النخيل أنواعًا من الرطب والبلح المختلفة ألوانه ..
وعاد ” الهطّاية ” بعد رحلتهم الشاقة وعلى جمالهم أحمال من قمح “افريقة” ليجدوا أرضهم الغبراء قد جادت بخير مضاعف، ولكنهم عادوا أيضًا بمريض مصاب بداء الوخم لم يلبث أن لبّى داعي ربّه، وتجددت مع وفاته مواسم الأحزان.