السّياساتُ الاستباقيةُ قادرةٌ على إخراجنا من أزمة كورونا بأخفّ الأضرار
الحجر الصحي العام إلى متى؟ وماذا بعد؟
الدكتور الصحبي بن فرج
مبدئيًا ورغم كل شيء، نجحت تونس إلى حد الآن في التصدّي لكوفيد 19، استبقنا دولًا أوروبية عريقة في الوعي بخطورة الوباء وتحركنا بديناميكية ومرونة لافتة منذ شهر جانفي رغم بعض الأخطاء والارتباك والنقص في الإمكانيات والتأخير والتردد في بعض القرارات ومحدودية الوعي في الشارع.
في النهاية وضعنا العام جيٌد حتى بالمقارنة مع دول تفوقنا إمكانيات وموارد.
على المجتمع العلمي والطبّي أن ينير القرار السياسي
لنتّفق أولًا أنّ هذا النجاح النسبيّ يبقى هشًّا ورهين تطور الأحداث، وقد ينقلب، لا سمح الله، إلى عكس ما نتمناه إذا تضاعفت الحالات المتعكرة وتجاوزت قدرة المنظومة الصحية على استيعابها.
كما أنّ تواصل حالة الشلل العام إلى ما لا نهاية له، ينذر بأزمة معيشية خانقة قد لا نقدر على مخلفاتها.
الآن، على المجتمع العلمي والطبي في تونس أن يتحمل مسؤولياته، عليه وفي أسرع وقت أن يتقدم ويتحرك، ويقترح وينير القرار السياسي: الأزمة طبية بالأساس وحلولها علمية بالضرورة، ولكم في “تمرد” البروفيسور الفرنسي راؤول ديدييه وزملائه عبرة يا أولي الألباب.
نحن اليوم على مسافة مائة يوم تقريبًا من انطلاق المرض في الصين، ولنا ما يكفي من العلم والتجارب والمعرفة:
*أمامنا تجارب الدول والشعوب الأخرى وتعاملها مع الوباء: الصين، كوريا، اليابان، روسيا، ألمانيا، إيطاليا وغيرها.
* أمامنا عشرات البحوث والدراسات والمقالات العلمية والتصريحات والمقابلات الإعلامية.
*أمامنا أيضًا واقعنا بكل ما فيه: إمكانياتنا المادية المتواضعة، قدراتنا المحدودة على الصمود لمدة طويلة وعلى تأمين الغذاء والأمن والخدمات لشعبنا أينما كان (خاصة في المناطق الداخلية والأحياء الفقيرة)، منسوب الوعي لدى بعض الفئات من شعبنا، نظامنا الصحي المتهالك، وضع اقتصادنا الصعب، نظامنا السياسي المأزوم أصلًا.. كلّ شيء أمامنا بلا مكياج ولا روتوش، بلا بطولات وهمية ولكن أيضًا بدون عُقد ولا استنقاص لأنفسنا ولقدراتنا.. نحن كما نحن.
علينا أن نجيب بدون عقدٍ عن الأسئلة التي نحاول تجنب طرحها، فضلًا عن الإجابة على هذا السؤال: كم ستدوم مدة الحجر العام؟. كيف سنخرج من الحجر العام؟. وماذا سنفعل بعد الحجر العام؟.
إلى متى ونحن ننتظر “حلاً” قادمًا إلينا من وراء البحار؟
إلى متى ونحن ننتظر “حلاً” قادمًا إلينا من وراء البحار؟. هل سيكون الحلّ تلقيحًا؟، مُصلًا؟، دواءً “متفق عليه”؟. أم ماذا؟.
لماذا نستسلم للتيار ونبقى دائما في ملاحقة الأحداث ورد الفعل؟. لماذا لا نصنع حلولنا؟، ونتحول إلى الفعل ونغير مسار الأحداث بعقولنا وأيدينا؟.
وحدهم العلماء والأطباء الأكفاء قادرون على الإجابة، ببساطة، لأنهم لا يخضعون للقانون الانتخابي ولا يعبؤون برأي عام قد يثور عليهم ولا بسلطة سياسية قد تتجاهلهم أو تنقم عليهم.
في زمن الكورونا، على العلماء والأطباء أن يتصدروا المشهد إلى جانب السياسيين. هم اليوم في الخطوط الأولى لحماية الوطن، وهم المؤتمنون على السيادة الوطنية.
لماذا ننتظر الكارثة؟
أغلب التجارب الناجحة اعتمدت في مرحلة أولى على الحجر الصحي الخاص أو العام ثم مرت سريعا إلى التشخيص السريع والواسع لحاملي الفيروس ثم لأكبر عدد ممكن من مواطنيها le dépistage massif ( فيما نكتفي نحن ببضع عشرات من التحاليل يوميًا لنتباهى بعدها بأنّ الوضع لا يزال تحت السيطرة.)
أغلب التجارب الناجحة اعتمدت على مداواة المرضى بعد تشخيصهم وعزلهم عن محيطهم، فيما نكتفي نحن بعزلهم في بيوتهم بدون دواء إلى أن يُشفوا أو تتعكر حالاتهم، فنتدخل بعد فوات الأوان.
وكلنا يعلم اليوم بوجود أدوية ناجعة وناجحة بنسب مختلفة: مضادات الفيروس (les antiviraux) والمضادات الحيوية وربما.. الكلوروكين.
إذًا، لماذا نبقى ننتظر الكارثة؟، كارثة ستكون إما صحية لا سمح الله وفي أحسن الأحوال اقتصادية ومالية.
إذا كانت تقنية التشخيص السريع والواسع متوفرة في الصين، وفي غيرها، وبالإمكان اقتناء ملايين الـ kit de diagnostic rapide، وأيضًا الآلاف من الـ kit PCR في أيام معدودة، وبميزانية تافهة.
لقد حسم وزير الصحة الجدل وتجاوز مقاومة البعض للتقنية الجديدة، وقرر أخيرًا اقتناء مئات الآلاف منها ليبقى القرار مع ذلك محدودًا من ناحية الكمٌ (نحتاج للملايين منها)، أما من ناحية السرعة والزمن (هذه التحاليل تتخاطفها الدول والشركات والمحتكرين إلى درجة تحاوزت طاقة المصانع الصينية على إنتاجها).
وإذا علمنا أيضًا أنّ الأدوية المطلوبة متوفرة لدينا، وبالحدّ الأدنى، فمصانعنا قادرةٌ على توفيرها فورًا وبكميات مهولة وأسعار في المتناول (وربما مجانا) وفي أسابيع، إذا ما رُفعت العراقيل والإجراءات واستوعبت الإدارة والسياسة أننا في حالة حرب حقيقية
وإذا تذكرنا أنّ لنا من الأطباء والمؤسسات الصحية ما يمكّن من تنفيذ أي قرار طبيّ وسياسي حكيم.
هكذا نوقف تطوّر المرض وتفادي الأزمات
ماذا بقى إذًا؟. يبقى فقط القرار السياسي الجريء المدعوم بالعقل الطبي والعلمي المستنير والمتجرد، بالتحول على مراحل من الحجر الصحي العام إلى الحجر الصحي الهادف (sélectif):
1) تشخيص سريع وواسع لحاملي الفيروس، يتمدّد تدريجيًا ويتوسع بثبات لشمل أوسع شريحة ممكنة من الشعب.
2) مداواة آلية لكل من يحمل الفيروس وتظهر عليه بوادر المرض حتى وإن كانت بسيطة، وذلك حسب بروتوكول دوائي تونسي تصادق عليه المجامع العلمية ووزارة الصحة.
3) عزل إجباري تامّ لكل حاملي الفيروس وعقوبات صارمة لمن يخالف.
4) رفع تدريجي للحجر العام حسب تقدم المعركة ضد الفيروس.
هكذا في نظري نوقف تطور المرض، ونتفادى تهاطل التعكرات ونحمي منظومتنا الصحية ونقضي على مخزون الفيروس حلقة العدوى ونضع قدما في مرحلة ما بعد الأزمة.
الاستشراف والسياسات الاستباقية
بمثل هذا الاستشراف، وبمثل هذه السياسات الاستباقية، نقضي كليًا أو جزئيًا على المالاريا، البلهارسيا، الكوليرا، التيفوويد، السل، الحصبة، شلل الأطفال وغيرها من الأمراض السارية، وهكذا سنقضي إن شاء الله على الكورونا.
فيما نحن منهمكون في إدارة الأزمة، يتنافس العالم والدول والشركات على الاستعداد لما بعد الكورونا: من يخرج منها قبل غيره، من ينطلق اقتصاده قبل غيره، من يفوز بتطوير وتقديم الحلول قبل غيره، من يربح أكثر في مرحلة الأزمة، ومن يكسب أكثر حال خروج الأزمة.
لا وقت لدينا للتردد والانتظار، ومفتاح النصر في هذه الحرب سيكون الاستشراف والاستباق والجرأة وسرعة الحركة، ومفتاح ما بعدها سيكون من يستثمر طاقاته ويوظف إمكانياته ليحجز له مكانًا في المقدمة.