خواطرُ مُبدعٍ: إيقاعاتٌ رَعَويّةٌ في مملكة الحيوان
أتحفنا الأستاذ المتميز دائمًا مصباح شنيب بإحدى خواطره الرائعة، من خلال نصٍّ سرديّ ضمّنه مقاطع وصفيّة رائعة، ذكّرتني شخصيًا بالنصوص التي درسناها في كتب السنة السادسة، في نهاية سبعينيات القرن الماضي، لا بل هي أشدّ وقعًا، وتأثيرًا.
الأستاذ مصباح شنيب، يعود بنا، وخاصة أولئك الذين ارتبطت طفولتهم بالصحراء والمرعى والأغنام، حتى خبروها فخبرتهم، فتوطّدت العلاقة التي حافظت على توهّجها برغم مخالطة عادات وطرق عيش أخرى طوال سنوات طويلة بين زيف المدينة، بعيدًا عن جمال الصحراء ونقاوة أهل الريف.
هذا الكاتب المبدع يأخذنا إلى حيث ماضينا الذي نحنّ إليه، فترانا متشبّثين بكل حرفٍ، بكل كلمةٍ، تعيدنا إلى ذلك الماضي، الذي لا يبرحنا أبدًا، لأنه جزءٌ منّا.
وهذه التدوينة كاملةً:
ذات عَشِيٍّ..
ساق الفتى شويهاته نحو المرعى البعيد بأمر من أبيه غير قابل للتعقيب، وتولّت أمه ليّ قطعة قماش على رأسه انسدلت على نصف قامته القصيرة.
شرع عصاه وخبط بها الأرض خبطا خفيفا فتحرك القطيع مُحدثًا جلجلةً بوقع فراسنه على أديم الأرض الصلبة، وتراقصت الأصواف المتحجرة بفعل البول الممتزج بالتراب مرتطمةً ببعضها البعض عازفةً إيقاعًا آخر أشبه ما يكون بوقع قطرات المطر المتسارعة.
لم يكن -وقتها- يُدرك كُنْهَ هذه الإيقاعات الرّعوية، وما كانت تعني له شيئًا لحداثة سنه، ولم تكن الأجواء المكفهرّة ملائمة للشعر، فضنكُ المعيشة كان يحول دون ذلك.
لكنه الآن بعد الاختلاف إلى المدرسة والجامعة، اكتسب ذائقة فنية جعلته وهو على عتبة الشيخوخة يُجيد السّماع إلى ذلك الإيقاع الملفوف بالنسيان.
الشّويهات.. ونسغ الحياة
في المرعى، انتشرت الشُّويهات تسابق بعضها البعض للظفر ببقايا عشبة يابسة، وذاك تقليد جار في مملكة الحيوان. كان كلّ ذلك يجري تحت رقابة الراعي الصغير، لكن ما كان يثير حُنقه ويشعل غضبه هو ذلك السلوك الفجّ للماعز الذي لا يتورّع عن استعمال قرنيه لأبسط نزاع يجدّ بينه خلال بحثه عن شجيرة يجري في أغصانها نسغ الحياة، ويتطلب ذلك في كل مرة حضور عصا الراعي لفكّ الخصام مرفوقًا بشتائم عنيفةٍ تلفظ في حق الماعز الشّره.
الماعز مثير لشقاء الرعيان لأنه لا يستقر على حال مستغلا رشاقته وخفة وزنه، فكثيرًا ما يعمد إلى بعثرة وحدة القطيع وذلك بخروجه عليه عَدْوًا نحو فضاء آخر، فيتبعه القطيع لاهثًا، ولا يملك الراعي الصغير إلا أن يعترضه، وأحيانًا ينفلت منه كما ينفلت الماء من بين الأصابع، فلا يردّه إلا بعد إنهاك وسيلٍ من الشتائم ترقى إلى الجَدِّ الأول.
هكذا ينفق الراعي وقته في معالجة شرود القطيع ولجم فائض شهواته مُحيطًا به إحاطة السّوار بالمعصم، حابسًا إيّاه على القرار في مواضع المرعى الخصيب. وكان ذلك يتطلب صبر أيوب.. لكن المران على هضم المشاق يسر عليه التطبيع القاسي مع هذا الوضع الصعب.
نزوات الطبيعة والفِراسة الغائبة
لكنّ العشايا لا تتشابهُ، ونزوات الطبيعة لا تستبقها الأرصاد الجوية في ذلك الوقت، وما كان الناس مؤهلين أصلًا للوقوف على شيءٍ من ذلك عَدَا فِراسةٍ بدويةٍ غيرِ كافيةٍ، ولم يكن للصبيّ منها إلمـامٌ يُذكر.
ذات عشيّ رفع الصبي بصره إلى الأفق الغربيّ، فلاحت له قطعةٌ من السحاب المركوم شديدةَ السّوادِ يسبقها ظلُّها على الأرض، فتملّكه الرعب والتفت إلى شياهه فوجدها تستنشق الرطوبة وترفع رؤوسها نحو كتلة السّواد.
لم يُطِلْ الراعي الصغير التفكير واتخذ قراره النهائي دون تردّد وسارع إلى القطيع يجمع أطرافه وضيّق عليه بعصاه التي كانت تلهبه بضرباتٍ حارّةٍ مُوجعةٍ حتى استقام أمامه مُيمّمًا وجهه شطر بيوت الشَّعر البعيدة.
الرّاعي والقرار الأخير
وما لبث أن انفلت السّيل كأفواه القِرَبِ مصحوبًا بالبَرَد الذي كانت حبّاتُه تسفع ساقيْ الصبي، وتضرب رؤوس الماعز، فيتضاعف جنونه، ويمعن في العدو نحو مَضرب الخيام. أما النعاج فحنت رؤوسها بخشوعٍ، واستترت بأصوافها التي كانت تقطر بماء أصفر ممزوجٍ ببوْلها المتيبّس على قائمتيها الخلفيتين.
نزل الغيث غزيرًا، وسالت السّواقي، وتعثر السّير وازداد منسوب الخوف، وواجه الراعي الرياحَ والأمطارَ المندلقة بخطًى مثقلةٍ ولم تبق معه إلا مجموعةٌ محدودةٌ من النعاج أثقلها الماء العالق بأصوافها، بينما أدرك الماعز مضرب الخيام.
وهرع الأهل لمعاضدة الراعي في إيصال القطيع إلى مأواه، واقتياد الراعي نحو نارٍ ذات لهبٍ لاستبدال ثيابه التي استبدّ بها الماءُ حتى صعُب فصلُها عن جسده النحيل.